أجل الرحمة والإشفاق، ولا شك أن التيسير في هذا الباب هو الذي يحبه الله، ولهذا قال الله تعالى في آيات الصيام:{يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}[البقرة: ١٨٥]. فإذا كان اليسر يحبه الله لنا في هذه العبادة فلا ريب أن اليسر فيه في الإفطار وإعطاء النفس حظها من الطعام والشراب والنكاح.
في هذا الحديث: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أمته عن الوصال، فالصحابة أوردوا على النبي صلى الله عليه وسلم إشكالا في أنه يواصل وهو ينهى عن الوصال، فبيَّن صلى الله عليه وسلم الفرق وأنه يواصل؛ لأن قلبه مشغول بذكر الله تعالى ومحبته عن الحاجة إلى الأكل والشرب، وأن هذا أمر لا يتسنى لغيره فظهر الفرق، ثم إنهم-رضي الله عنهم- لم يتركوا الوصال ظنا منهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد بذلك الإشفاق عليهم لا أن ذلك من التعبد، فواصل بهم النبي صلى الله عليه وسلم يومًا ويومًا ليتبين لهم الحكمة من النهي عن الوصال، وقال:"لو تأخر الهلال لزدتكم".
فيستفاد من هذا الحديث عدة فوائد: أولًا: النهي عن الوصال، وهل النهي للتحريم أو للكراهة أو للإرشاد؟ على خلاف بين العلماء:
منهم من قال: إن النهي للتحريم، واستدل بأمرين:
الأمر الأول: أنه الأصل في النهي لقوله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليمٌ}[النور: ٦٣]. والنهي أمر بالاجتناب، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"ما نهيتكم عنه فاجتنبوه"، فيكون النهي للتحريم.
والأمر الثاني الذي استدلوا به: أنه واصل بهم يومًا فيومًا للتنكيل، والتنكيل نوع من العقوبة، ولا عقوبة إلا على فعل محرَّم وإلا لما عوقب.
وقال آخرون: إن النهي للكراهة؛ لأنه لو كان للتحريم لم يواصل بهم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأذن لهم في الاستمرار، بمعنى: أنه لو كان للتحريم لنهاهم عنه نهيا باتًّا، إذ إن تمكين المنهي من فعل المحرم لا يجوز، فقالوا: إذن هذا النهي للكراهة، أما القائلون بأنه للإرشاد، وأن الإنسان حسب قوته فاستدلوا لذلك بفعل كثير من الصحابة-رضي الله عنهم- للوصال حتى كان ابن الزبير رضي الله عنه يواصل خمسة عشر يومًا لا يفطر فيها، فقالوا: إن فعل الصحابة- رضي الله عنهم- وهم عدد من الصحابة يدل على أنهم فهموا منه أن النهى للإرشاد، وأن الإنسان إذا كان يرى من نفسه التعب والمشقة فإن لا يواصل، أما إذا كان يرى الراحة والانشراح فإنه يواصل.
فإن قلت: ما هو أقرب الأقوال إلى الصواب؟
فالأقرب أنه للكراهة على الأقل، والقول بالتحريم قوي للسببين المذكورين في صدر الكلام.