الرجل الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم معتزلًا لم يصلِّ في القوم فقال له:"مالك؟ " قال" أصابتني جنابة ولا ماء، قال: "عليك بالصعيد"؛ لأن الرجل ظن أن الإنسان لو كان عليه جنابة وليس عنده ماء لا يصلي، فجيء بالماء وبقي منه بقية فأعطاه الرجل وقال: خذ هذا فأفرغه على نفسك، وهذا بعد نزول الآية بلا شك، فذهب الرجل واغتسل، هذا الحديث يدل على أن كيفية الغسل التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم بها ليست واجبة؛ لأنها لو كانت واجبة لبينها لهذا الرجل؛ إذ إن هذا الرجل لا يعرف.
المثال الثاني:{وأقيموا الصَّلوة} قلنا: هذا مجمل، ولكن الرسول بيَّنها، لكن بيان الرسول صلى الله عليه وسلم لإقامة الصلاة كان بالقول أحيانًا وبالفعل أحيانًا.
نرجع إلى الاعتكاف "كان يعتكف العشر الأواخر" هذا فعل بيان لمجمل أم لا؟ لا، ليس بيانًا لأمر مجمل، وهل هو على سبيل التعبد؟ نعم، ما الدليل؟ أنه في المسجد والمسجد مكان للعبادة وليس للبدن مصلحة في ذلك، إذن فهو عبادة، فيؤخذ منه: مشروعية الاعتكاف وقد دلّ عليها أيضًا القرآن لقوله تعالى: {ولا تباشروهنَّ وأنتم عاكفون في المساجد}[البقرة: ١٨٧]. إذا قال قائل: كيف نعرف من هذه الآية أن الاعتكاف مشروع؟ فنقول: لأن الشارع رتب له أحكامًا، وترتيب الأحكام عليه يدل على مشروعيته والرضا به، فقال:{ولا تباشروهنَّ وأنتم عاكفون في المساجد}، إذن الاعتكاف له حرمة، وهو أن الرجل يمنع من مباشرة أهله فيكون عبادة، وسبق لنا في أول الباب أن الاعتكاف مشروع بالإجماع، نقل ذلك الإمام أحمد، ولا يجب إلا بالنذر لحديث عمر بن الخطاب.
مسألة: وهل يصح في كل مسجد أو في مساجد مخصوصة؟ من العلماء من يقول: لا يصح إلا في مسجد المدينة فقط، ومن العلماء من قال: لا يصح إلا في مسجدي مكة والمدينة، ومنهم من يقول: لا يصح إلا في المساجد الثلاثة، ومنهم من يقول: لا يصح إلا في المسجد الجامع، ومنهم من يقول: لا يصح إلا في مسجد الجماعة، ومنهم من يقول: يصح في كل مصلى حتى مصلى المرأة في بيتها لما أن تعتكف فيه، لكن الراجح من هذه الأقوال بلا شك أنه يصح في كل مسجد تقام فيه الجماعة؛ لأنه إذا كان المسجد لا تقام فيه الجماعة فإن هذا الرجل الذي اعتكف إما أن يتردد إلى الجماعة، والتردد الكثير كخمس مرات في اليوم والليلة ينافي الاعتكاف، وإما أن يدع الجماعة فيترك واجبًا لمسنون وهذا لا يجوز، فالصحيح: أنه يصح في كل مسجد تقام فيه الجماعة، أما الجمعة فهي في الأسبوع مرة يخرج إليها، ومع هذا نقول: الأفضل أن يكون في المسجد الجامع إن تخلل