وقوله:"حتى يكون آخر عهدهم بالبيت"، وفي رواية لأبي داود:"آخر عهدهم بالبيت الطواف". فتفسر هذه الرواية معنى الآخرية هنا، وهي أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف، وقد يقال: إنه وإن لم ترد هذه الرواية فإن المراد الطواف؛ لأن الذي يختص بالبيت من الأعمال هو الطواف، لو قال قائل: آخر عهدهم بالبيت الصلاة مثلًا، قلنا: الصلاة لا تختص بالبيت، وإلا لقال: بالمسجد مثلًا لما قال: بالبيت وقد علم أنه لا يختص به إلا الطواف؛ فهذه قرينة على أن المراد به هنا الطواف، ولهذا قيل: إن بعض الملوك نذر أن يتعبد لله عبادة لا يشركه فيها أحد من الناس أبدًا قال له: عليّ نذر أن أفعل عبادة لا يشاركني فيها أحد من الناس حين أفعلها، فلا نقول: هي الصلاة، ولا الصيام، ولا الصدقة، فسأل العلماء فقال بعض أهل العلم: أفرغوا له المطاف واجعلوه يطوف وحده حينئذ لا يشاركه أحد ويكون قد وفّى بنذره.
أقول: إن قوله: "آخر عهدهم بالبيت" يمكن أن نقول: حتى وإن لم ترد رواية أبي داود المصرحة فإنه يتعين بالقرينة أن يكون المراد الطواف هنا.
يقول:"إلا أنه خفف عن الحائض" يعني: خفف الأمر عن الحائض، والحائض معروفة، وهل مثلها النفساء؟ فيها خلاف بين العلماء؛ فابن حزم يرى أن النفساء لا يمتنع عليها الطواف وقد مرّ علينا في أول كتاب الحج وجه استدلاله ولكن الجمهور يرون أن النفساء كالحائض لا تطوف بالبيت، ويجيبون عن هذا الحديث بأنه من باب التغليب، والقيد إذا كان أغلبيًا لا يكون له مفهوم.
فيستفاد من الحديث عدة فوائد: أولًا: وجوب طواف الوداع على الحاج لقوله: "أمر الناس ... الخ"، وهذا قاله النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع.
لو قال قائل: قد يكون الأمر هنا للاستحباب؟
قلنا: لا يصح لوجهين: الأول: أن الأصل في الأمر الوجوب إلا بدليل، الوجه الثاني: أنه قال: "خفف عن الحائض"، والتخفيف لا يقال إلا في مقابل الإلزام، إذ لو كان الأمر هنا استحبابًا لم يكن هناك فرق بين الحائض وغير الحائض؛ لأنه خفف عن الجميع؛ إذ إن المستحب لا يلزم به الإنسان.
فإن قلت: وهل يجب ذلك في العمرة؟
فالجواب: أن هذا محل خلاف بين العلماء؛ منهم من قال: إنه يجب الطواف للعمرة كما يجب للحج، واستدل لذلك بأن العمرة حج أصغر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم قال