ويستفاد من هذا الحديث: وجوب القضاء؛ لقوله:"فعليه الحج من قابل"، أضفه إلى حديث ابن عباس السابق:"حتى اعتمر عامًا قابلًا"، فيدل على أن المحصر يلزمه القضاء، وإلى هذا ذهب الإمام أحمد في المشهور عنه وكثير من أهل العلم، والقول الثاني: أنه لا يلزمه القضاء إذا أحصر إلا إذا كان الحج الذي أحصر فيه فريضة الإسلام أو كان واجبًا بنذر، فيلزمه القضاء لا من أجل الإحصار، ولكن من أجل الأمر السابق الفريضة أو النذر.
الذين قالوا بوجوب القضاء الحديث ظاهر في تأييدهم، لأنه قال:"وعليه الحج من قابل"، والذين قالوا: لا يجب عليه القضاء؛ قالوا: لأن الله لم يذكره في القرآن، وإنما وجب ما استيسر من الهدي، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يذكره في سنته، وإنما أوجب الحلق، وليس في المسألة إجماع حتى يكون دليل علينا، فانتفاء الدليل الموجب يدل على عدم الوجوب؛ لأن الأصل براءة الذمة، ثم قالوا: عندنا دليل إيجابي في عدم الوجوب، وهو أن الواجبات تسقط بالعجز، وهذا الذي شرع في النُّسك وهو ليس بواجب شرع في نفل، ولما شرع فيه وجب عليه إتمامه، وإتمامه عجز عنه بالحصر من عدو أو غيره والواجبات تسقط بالعجز، فهذا دليل على عدم الوجوب، فصار دليل القائلين بعدم الوجوب مركب من دليلين: البراءة الأصلية، ودليل آخر موجب؛ أي: مثبت لعدم وجوب القضاء، البراءة بأي شيء استدللنا بها؟ بأن الله ذكر الحصر، وذكر ما يجب فيه، وهو ما استيسر من الهدي، ولم يذكر القضاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الحصر وأوجب فيه الحلق، ولم يوجب القضاء، هذا دليل براءة الذمة، الدليل الإيجابي أن نقول: إن هذا النُّسك ليس بواجب ابتداء؛ لأنه سنة نفل، وإنما الواجب إتمامه تعذر بالعجز عنه والواجبات تسقط بالعجز، ولم يوجب الله عز وجل على عباده الحج والعمرة إلا مرة واحدة فقط؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"الحجُّ مرّة فما زاد فهو تطوُّع". نحتاج الجواب على هذا الدليل، أما حديث ابن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم اعتمر عامًا قابلًا؛ فنحن إذا قلنا لا يجب القضاء لسنا نقول: لا يجوز القضاء بل ننفي الوجوب دون الجواز، ونقول: يجوز أن يقضي، بل قد نقول: إننا نستحب له أن يقضي اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما الحديث الذي معنا فنقول:"عليه الحج من قابل" يحتمل أن يكون هذا قضاء، ويحتمل أن يكون هذا أداء؛ أي: أنه يحتمل أن الحديث فيمن كسر أو عرج في الفريضة، فصار عليه حج من قابل، ويحتمل أن يكون في نافلة، فيلزم القضاء، والمعروف أنه إذا وجد الاحتمال سقط الاستدلال، وحينئذ يجب حمل الحديث على ما تدل عليه الأدلة السابقة، وهو أن يكون الإحصار في فريضة، ومعلوم أنه إذا كان الإحصار في فريضة فإنه يجب عليه القضاء.