للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الصور الرابعة: أن يضم يديه على حصى، يعني: أن يأخذ كومة من الأرض حصى، ولنفرض أن أرضًا فيها حصباء فأخذ بيده وقال: بعتك من هذا القطيع عدد ما في يدي من الحصاة بألف درهم فقال: قبلت، عدّ فعدّ يمكن الحصى أن يطلع كثيرًا ويمكن أن يطلع قليلًا حسب اليد وحسب صغر الحصى وحسب جودة الكمش، هذا أيضًا غرر، والعكس لو قال: بعتك هذا القطيع بعدد ما في يدك من الحصى من الدراهم، الأول قدَّرنا المبيع، وهنا قدَّرنا الثمن، نقول: هذا أيضًا لا يجوز من أجل الجهالة، هذه خمس صور.

وهناك أيضًا صورة سادسة: بأن يقول: بعت عليك ما يزن مائه من الحصى ومن هذه الأرض بكذا وكذا، وهو لم يعين الحصاة، نقول: هذا أيضًا لا يجوز؛ لأنه مجهول، وبهذا تبين أن بيع الحصاة داخل في قوله: "وعن بيع الغرر"، وهذا في الحقيقة يعتبر قاعدة؛ أي: أن كل بيع فيه غرر فهو منهيٌّ عنه، والغرر كل ما فيه جهالة واحتمال فهو غرر، وعلى هذا فعطفه على بيع الحصاة من باب عطف العام على الخاص، وهذا سائغ في اللغة العربية، فيكون الخاص الذي ذكر كأنه مثال مقدم لهذه القاعدة العامة.

كلمة "غرر" قلنا: كل ما فيه جهالة واحتمال للغنم أو الغرم؛ لأن ذلك من الميسر، فإن حقيقة الميسر هي أنها معاملة تقع بين متغالبين، يكون أحدهما إما غانم وإما غارم، فبيع الغرر إذن من الميسر، والحكمة في النهي عنه ظاهرة جدًّا؛ لأنه إذا كان غانمًا أدّاه ذلك إلى الجشع والطمع والانسياق وراء المادة والدنيا؛ لأنه كسب، فيريد أن يستمر هذا الكسب، فتجده يلهو بدنياه عن دينه، وإن كان الأمر بالعكس بأن كان غارمًا ألحقه من الندم والحزن وكراهة صاحبه الذي غلبه ما يوجب العداوة بينهما، ولهذا قال الله تعالى: {إنَّما يريد الشَّيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء فى الخمر والميسر} [المائدة: ٩١]. فقال: {فى الخمر والميسر}، وواضح في هذا أن المغلوب -حتى وإن كانت المعاملة باختياره- لا بد أن يقع في قلبه شيء، فتبيّن أن الميسر ضرر على المغلوب والغالب جميعًا؛ لأن الغالب يكون في نفسه حب الغلبة والظهور والجشع والطمع وحب المال والانصراف به عما خلق له لأنه يكسب، والنفوس مجبولة على محبة المال: {وتحبُّون المال حبًّا جمًّا (٢٠)} [الفجر: ٢٠]. {وإنَّه لحبِّ الخير -يعني: المال- لشديدٌ} [العاديات: ٨]. لهذا نهى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، فالحكمة إذن تقتضي النهي عن ذلك، وهذا النهي للتحريم، وقد علمنا من القاعدة المعروفة عند الفقهاء -رحمهم الله- أن كل شيء نهي عنه إذا فعل صار حرامًا من جهة الحكم التكليفي وفاسدًا من جهة الحكم الوضعي، والحكم الوضعي هو ما

<<  <  ج: ص:  >  >>