بقي مسألة وهي: لو أن الحاضر باع للبادي تبرعًا ونصحًا؛ لأنه علم أن البادي سوف يغبن إما لكونه يعلم أنه رجل ليس بذلك القوي في لبيع والشراء، أو يعلم بأن أهل البلد الذين يشترون من الجلب أناس يخدعون، فأراد أن ينصح لهذا القادم ويبيع له تبرعًا فهل هذا جائز؟ الجواب: على تفسير ابن عباس جائز، وعلى ظاهر الحديث ليس بجائز؛ لأن الحديث مطلق، والذي يبرئ ذمة الإنسان أن يأخذ بظاهر النص؛ لأن الله سيسأله يوم القيامة، ليس عن فهم فلان وفلان سيسأله عما أجاب به المرسلين، سيسأله عن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، فالواجب على الإنسان أن يأخذ بظاهر النصوص ما لم يعلم من النصوص الأخرى، أن هذا غير مراد، فإذا علم بأنه غير مراد، فهذا علم بأنه غير مراد فهذا حجته عند الله عز وجل.
في هذا الحديث أيضًا في الجملة الثانية منه هل يصح بيع الحاضر للبادي؟ المشهور من المذهب: أنه لا يصح إذا تمت الشروط بأن قصده الحاضر وكان البادي لا يعلم السعر وبالناس حاجة إليها، فإذا تمت الشروط فإن البيع لا يصح، وهذا هو ظاهر الحديث أن البيع لا يصح، ولكن لو أجاز المشتري ذلك وقال: أنا راضِ فينفي أن يصح؛ لأنه إنما نهى عن بيع الحاضر للبادي من أجل مصلحة المشتري، فإذا رضي بذلك فلا بأس.
٧٧٥ - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تلقَّوا الجلب، فمن تلقِّي فاشتري منه، فإذا أتى سيِّده السُّوق فهو بالخيار". رواه مسلم.
قوله:"لا تلقوا الجلب" نقول فيها كما قلنا في "لا تلقوا الركبان"، لكن هنا الجلب فعل بمعنى مفعول أي: لا تلقوا المجلوب، "فمن تلقي فاشتري منه"، أي: من هذا المجلوب، "فإذا أتى سيده" أي: سيد المجلوب وهو مالكه الأول "فهو بالخيار" النهي هنا يراد به: النهي عن التلقي والشراء، أما مجرد تلقي الجلب من أجل أن يضيفهم أو يوجب بهم فإن النهي لا يرد على هذا.
وقوله:"فمن تلقي فاشتري منه فإذا أتى سيده" أي: سيد الجلب وهو المالك الأول؛ لأن السيد يطلق على المالك، وله إطلاقات كثيرة متعددة معروفة في اللغة، وقوله:"السُّوق"، يعني: سوق التجارة الذي يباع فيه ويشترى ف"أل" في قوله: "السوق" للعهد الذهني؛ لأن العهود ثلاثة: عهد ذكري، وعهد ذهني، وعهد حضوري، فالعهد الذكري: أن يكون مدخول "أل" سبق ذكره مثل قوله تعالى: } كما أرسلنا إلى فرعون رسولا {[المزمل: ١٥]. من الرسول المذكور؟ وأما العهد الحضوري فهو أن تكون "أل" بمنزلة اسم الإشارة مثل قوله تعالى: } اليوم أكملت لكم دينكم {[المائدة: ٣]. فإن تقديره: هذا اليوم أكملت لكم دينكم، فتسير "أل" إلى شيء حاضر، أما العهد