للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قوله رضي الله عنه: "لو كان الدين بالرأي" أي: بالرأي الأول الذي هو بادي الرأي "لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه"، لكن الدين ليس بالرأي الأول وليس ببادي الرأي؛ بل الدين بالرأي العميق المبني على العقل الناضج؛ وإلا ولا شك أن الدليل والنقل الصحيح لا يمكن أن يعارضا العقل الصريح هذه قاعدة، والدليل على هذا أن الله دائما يقول: {أفلا تعقلون} مما يدل على أن الشريعة موافقة للعقل، وأن الذي يخالف الشريعة مخالف للعقل، وعليه فيكون قول علي رضي الله عنه: "لو كان الدين بالرأي" أي: بيادي الرأي "لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه"، لكن الدين يكون بالعقل المتعمق الراسخ المتأني ولذلك تجد أكثر الذين يبنون أمورهم على بادي الرأي يفسدون أكثر مما يصلحون؛ لأنهم لم ينظروا إلى العواقب ولم ينظروا إلى النتائج والثمرات، فتجدهم يفسدون أكثر مما يصلحون؛ ولهذا لما سئل الإمام أبو حنيفة رحمه الله عن قوم يخرجون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لكن بالعنف وأخذ الناس؟ قال: لا يخرجون، قالوا: إنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر! قال: نعم، ولكنهم يفسدون أكثر مما يصلحون، وهذه قاعدة يجب على الإنسان أن يبني منهجه عليها، أن ينظر إلى العواقب، أنت ربما تشفي غليلك في هذه الحال، وترى أنك قد تشفيت، ولكن يحصل من المفاسد أكثر مما حصل من هذه المصلحة التي وقعت فانظر إلى العواقب، وإن الأمور التي نشاهدها الآن حولنا أو بعيدا منا تدل على ذلك، على أنه يجب أن نتأنى ونتصبر حتى نقدم الخطى.

إذا نظرنا إلى هذه المسألة بالرأي العميق وجدنا أن أعلى الخف أولى بالمسح من أسفله؛ لأنك إذا مسحت على الخف مسحت على شيء نظيف، على شيء لم تلوثه الأرض بالأذى والقذر، ولو مسحت على الأسفل فتلوثت يدك بالأذى والقذر والوسخ، وليس المراد بهذا المسح أن نغسل الرجل، ولو كان المراد أن نغسل الرجل لوجب علينا أن نخلع، لكن المراد بالتعبد لله عز وجل بمسح هذا العضو بما يكون تطهيرا له، فعليه يكون الدين - وهو مسح الخف من أعلاه- موافقا للعقل وللرأي السليم الصواب.

من فوائد حديث علي رضي الله عنه ما ذكرناه الآن: أن الدين ليس بالرأي الذي هو بادي الرأي.

ومن فوائده أيضا: إسناد الأحكام الشرعية إلى من له التشريع وهو من الخلق من؟ الرسول - عليه الصلاة والسلام-؛ ولهذا قال: "وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ... " إلخ.

ومن فوائد هذا الحديث: أن المسح على الظاهر ليس على الباطن، فمن مسح على الباطن فهو من المتعمقين والمتنطعين والمبتدعين أيضا.

ومن فوائد الحديث: من قوله: "على ظاهر الخفين" أن أدنى مسح كاف؛ لأنه لم يقل: مسح

<<  <  ج: ص:  >  >>