التي هي فسخ العقد برضا الطرفين لم تقيد بالمفارقة؛ لأن الإقالة تجوز بعد مفارقة المجلس وقبل مفارقته، لكن المراد بالاستقالة هنا: فسخ العقد، وقوله:"ولا يحل له" أي: للمبتاع والمشتري أن يفارقه؛ أي: يفارق صاحبه خشية أن يستقبله وهو صريح في أن المراد: مفارقة البدن.
ففي هذا الحديث من الفوائد: ما سبق من ثبوت خيار المجلس، وأن هذا الخيار يجوز إسقاطه ويجوز مد الخيار إلى ما بعد التفرق.
وفيه أيضاً: أنه يحرم على الإنسان أن يفارق المجلس خوفاً من اختيار صاحبه فسخ العقد؛ لأن هذا تحيل إلى إسقاط حق أخيه بعد ثبوته، ولا يجوز التحيل على إسقاط حق الغير.
ومن فوائد هذا الحديث: اعتبار النية في العمل، فإن المفارق لمجلس عقد البيع قد يكون فارق المجلس؛ لأنه انتهت حاجته، وقد يكون فارق المجلس من أجل ألا يفسخ صاحبه لئلا يمكن صاحبه من الفسخ، فعلى الأول تكون مفارقته جائزة، إنسان جاء لشخص واشترى منه وذهب، وعلى الثاني تكون المفارقة حراماً؛ لأن المقصود بها إسقاط حق أخيه الثابت في العقد.
فإن قال قائل: أليس هذا الحق له؟
فالجواب: بلى الحق له، لكن ليس له الحق في إسقاط حق أخيه بدون مصلحة له، وهذا موجود كثير في الشريعة أنه لا يحل للإنسان أن يمنع أخاه من شيء ينتفع به أخوه وهو لا يضره، كما جرى لعمر بن الخطاب مع محمد بن مسلمة حين منع جاره أن يجري الماء من أرض محمد فقال عمر:"لأجرينه ولو على بطنك"، وكما قال أبو هريرة في وضع الخشب على الجدار:"ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم"، فهذا الرجل لا يحل له أن يسقط حق أخيه الثابت له بدون مصلحته وهو ليس قصده إلا الإضرار.
فإذا قال قائل: أليس ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا عقد الصفقة قام وفارق المجلس خشية أن يستقيله صاحبه، فما الجواب؟
الجواب: أن هذا فعل ابن عمر، وفعل ابن عمر لا يحتج به على الحديث، ولكن يلتمس له العذر فلعله رضي الله عنه لم يبلغه هذا الحديث، وإلا فإننا نعلم أن ابن عمر رضي الله عنهما من أشد الناس تمسكاً بالسنة، ولو علم أنه لا يحل له أن يفارقه ما فارقه قطعاً، هذا هو ما نعلمه من حال ابن عمر رضي الله عنهما، فيحمل ما ورد من فعله على أنه لم يبلغه الخبر.