"لعن" أي: دعا عليه باللعنة؛ أي: بالطرد والإبعاد عن رحمة الله، "الراشي": هو باذل الرشوة، "والمرتشي": آخذ الرشوة، والرشوة بفتح الراء وكسرها وضمها مثلثة الراء، يعني تقول: رشوة فيكون صحيحاً، رشوة صحيح، رشوة صحيح، يقال: مثلث الراء، ويقال: بالمثلثة وبينهما فرق، إذا قيل: مثلث الراء باعتبار الحركات، وإذا قيل بالمثلثة باعتبار النقط، فالثاء نقول فيها: مثلثة ورشوة نقول بتثليث الراء. ما هي الرشوة؟ الرشوة في الأصل: العطاء الذي يراد به التوصل إلى مقصود، مأخوذة من ارشاء الذي هو حبل الدلو الذي ينزل في البئر للسقيا؛ لأن الرشاء يتوصل به الإنسان إلى مقصوده إلى الماء، ولكن المراد بالرشوة هنا التي لعن فاعلها هي البذل للتوصل إلى باطل، أو إسقاط حق، وأكثر ما تكون في المحاكمات يبذل الخصم للقاضي- للحاكم- شيئا ليحكم له بما يريد من باطل، فهذه الرشوة وكذلك في غير القضاء، يبذل الإنسان شيئا إلى رئيس دائرة ما أو مديرها لينصبه في وظيفة وهو ليس لها بأهل.
فالقاعدة إذن: أن الرشوة المحرمة هي بذل مال للتوصل إلى باطل أو إسقاط حق، هذه المحرمة، وأما ما يبدل للتوصل إلى حق فهي حرام بالنسبة للآخذ حلال بالنسبة للباذل، كرجل تسلط عليه ظالم فأعطاه رشوة لأجل منع الظلم عنه فهذا لا بأس به، إنسان آخر له حق ولا يستطيع التوصل إلى يبذل المال ليصل إلى حقه فهذا ليس حراماً عليه والإثم على الآخذ، ولكن لا ينبغي أن نلجأ إلى ذلك إلا عند الضرورة القصوى؛ لأننا لو بذلنا هذا بسهولة لفسد من يتولى أمور الناس وصار لا يمكن أن يعمل إلا برشوة، كما يوجد في بعض البلاد لا يمكن أن تقضى حاجته التي يجب قضاؤها على الموظف إلا برشوة، يأخذون بالقاعدة الأصلية الثابتة الراسخة عند العامة وهي:"ادهن السير يسير يعني: ما يمكن إنه يسير أمره ويسهل إلا إذا دهن السير وإذا دهنته كثيرا يمشي ويسرع وإن دهنته قليلاً يقطع".
على كل حال أقول: إن الإنسان الذي يبذل الشيء ليتوصل إلى حقه أو دفع الظلم عنه ليس عليه إثم، بل الإثم على الآخذ، وقد نص على ذلك أهل العلم الشراح الذين يشرحون الحديث باعتباره شرحاً فقيها، والشراح الذين يشرحون باعتباره شرحاً لغوياً كصاحب النهاية مثلاً، إذن الرشوة التي لعن فاعلها ومن فعلت له هي التي يتوصل بها إلى باطل أو إسقاط حق، هذه يلعن فيها الراشي والمرتشي، وإنما لعنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يتضمن فعلهما من المفاسد العظيمة وتعطيل حقوق الناس والتلاعب بهم، والناس- كما تعلمون- إذا لم نقض حوائجهم على الوجه المطلوب حصل بذلك فتن عظيمة وكراهة لولاة الأمور الذين يتولون هذه الأشياء، ويأخذون عليها رشوة والواجب على الإنسان أن يتقي الله عز وجل فيمن ولاه الله عليه وأن يسير بهم بالعدل والقسط، ويعطي كل ذي حق حقه، وألا يستعمل سلطته ليتوصل بها إلى أكل أموال الناس بالباطل.