والقول الثاني: القبض ليس بشرط للزوم وإنما هو لكمال التوثقة؛ لأن كون الرهن بيد المرتهن أقوى بالتوثقة مما إذا كان في يدي الراهن، وأما أن يكون شرطا للزوم فلا، واستدولوا بعموم قوله تعالى:{يأيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود}[المائدة: ١]. والرهن يتم عقدا بالإيجاب والقبول وتعيين المرهون فيدخل في عموم قوله:{أوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا}[الإسراء: ٣٤]. والعاقد معاهد للمعقود معه فيجب عليه الوفاء، واستدلوا أيضا بأن القول بعدم اللزوم يفضي إلى تصرف الراهن في الراهن على وجه يسقط به حق المرتهن، وهذا خيانة لمن؟ للمرتهن، والخيانة محرمة، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تخن من خانك»، فكيف بمن لمن يخنك؟ كيف بشخص وثق بك وأبقى الرهن بيدك وتخونه؟ وأما الجواب عن الآية والحديث التي استدل بهما من يرى أن القبض شرط للزوم، فقالوا: إن الآية لم يذكر الله تعالى فيها القبض على وجه الإطلاق وإنما ذكره في حال معينة، ما هي؟ {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا}[البقرة: ٢٨٣]، فهنا لا يمكن التوثق إلا برهن مقبوض، لأنك إذا لم تقبض الرهن وليس بينكما مكاتبة صار ذلك عرضة لأن يجحدك الراهن، ويقول: ما رهنتك فيكون في هذا إضاعة لحقك، وإعادة للراهن على الخيانة وعدم الوفاء، فلهذا قال:{فرهان مقبوضة}[البقرة: ٢٨٣]، وأنتم لا ترون أن القبض شرط للزوم في هذه الصورة فقط بل ترونه شرطا للزوم حتى وإن كان في حضر، وإن وجدا كاتبا فلم تستدلوا الآية، ومن المعلوم عند العلماء أنه إذا كان الدليل أخص من المدلول بطل دلالته على ما خرج عن الخصوص، بخلاف ما إذا كان الدليل أعم فإنه يدخل فيه الخصوص فلا يمكن أن تستدل بدليل خاص على مسألة عامة، وإذا تنازلنا معكم قلنا: إن القبض شرط للزوم في هذه الحال المعينة فقط، ومما يدل على ذلك من الآية قوله:{فإن أمن بعضكم بعضا فليود الذي اؤتمن أمانته}[البقرة: ٢٨٣]. وهذا يدل على أنه إذا أمن بعضنا بعضا فلا حاجة إلى قبض الرهن اعتمادا على الأمانة، فليست في الآية دليل على اشتراط القبض للزوم الرهن، أما الحديث فليس فيه إطلاقا ذكر اشتراط القبض للزوم، بل فيه أن الرهن إذا سلم للمرتهن وهو مما يركب فله ركوبه بقدر النفقة، وله شرب لبنه إذا كان مما فيه اللبن بقدر النفقة فقط.
ومن فوائد الحديث: عناية الشارع بالحيوان لقوله: "بنفقته"؛ لأن ركوب المرتهن له بحمله على الإنفاق عليه، لكن لو قيل له: لا تركب ولا يحل لك ركوبه فهل ينفق؟ لا ينفق، وإذا أنفق فإنما يتفق بشح.