للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لكنه يختلف عن الحديثين السابقين بأن الحديثين السابقين مطلقان وهذا مقيد بما إذا كان طريقهما واحدًا، وإذا قيد الحكم بهذا لم يكن مخالفًا للأحاديث السابقة، وهي قوله: «قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة»؛ لأن قوله: «إذا كان طريقهما واحدًا» يدل على أن الطرق لم تصرف وحينئذ تجتمع الأحاديث.

نرجع أولاً إلى فوائد الأحاديث الثلاثة: فيها دليل على مراعاة حق الجار، ولا شك أن للجار حقًا كبيرًا على جاره، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل إكرام الجار من مقتضى الإيمان فقال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره»، وحتى نفي الإيمان عمن لا يأمن جاره بوائقه فقال: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، من لا يأمن جاره بوائقه»، يعني: ظلمه وغشمه.

ومن فوائد الأحاديث: أن من حق الجار إذا أراد جاره أن يبيع ما جاوره فليعرض عليه؛ لأنه أحق بجواره.

ومن فوائد الأحاديث الثلاثة: أنه إذا كان بين الجارين طريق مشترك فللجار حق الشفعة، وحق الشفعة أخص من الحق المطلق العام، وعلى هذا فنقول: إذا كان بين الجارين طريق مشترك فللجار أن يشفع إذا باع جاره.

فإن قال قائل: كيف تقولون: إنه يشفع وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام»، وأنتم إذا سلطتم الجار على الأخذ بالشفعة استحللتم مال المسلم بغير رضًا منه، وقد قال الله تعالى: {لا تأكلوا أمولكم بينكم بالبطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم} [النساء: ٢٩].

فالجواب عن ذلك أن نقول: إننا سلطنا الجار على الأخذ بالشفعة من أجل دفع الضرر الذي يتوقع من هذا الجار الجديد؛ لأن بينهما طريقًا مشتركًا هذا الطريق ربما يتعرض الجار الجديد لأذية الجار الأول بالمزاحمة ووضع الحصى والسيارات وهكذا، أما إذا كان ليس بينهما شيء مشترك لا طريق ولا بئر ولا ماء ولا غيره فإنه لا شفاعة؛ لأن الأصل تحريم أخذ المال من المشتري بغير حق، أصل المال محترم اشترى بماله والملك ملكه كيف نأخذه منه قهرًا.

وهذه المسألة اختلف فيها العلماء على ثلاثة أقوال أعني هل للجار شفعة أو لا؟ فمن العلماء من قال: لا شفعة له مطلقًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل شرك أي: في كل مشترك، والجوار ليس شركًا، فمنطوق الحديث: أن الشفعة ثابتة في المشترك، ومفهوم الحديث: أنه لا شفعة في غير المشترك، ولأن الأذية في المشترك أشد من الأذية في المجاور،

<<  <  ج: ص:  >  >>