ثم قال: وفي لفظ: «إنما العمرى التي أجازها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يقول: هي لك ولعقبك» يعني يقول: أعمرتك هذا البيت لك ولعقبك، وهذه هي الصورة الأولى التي ذكرناها المقيدة بأنها له ولعقبه، فأما إذا قال هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها.
«ما» هنا مصدرية ظرفية يُحول الفعل معها إلى ظرف ومصدر فيكون التقدير مدة عيشك، فإذا قال: هي لك ما عشت، فإنها ترجع إلى صاحبها وهو المُعْمِر بالكسر، إذن ذكر في الحديث صورتين: الصورة المقيدة بأنها له ولعقبه، والصورة الثانية بأنها له ما عاش، وبقي علينا الصورة المطلقة التي يقول أعمرتك هذا البيت، ولا يقول: ما عشت، ولا يقول: لك ولعقبك، وهذه تكون هبة تامة للمعمر حيا وميتاً ولعقبه.
خلاصة الكلام: أن العمرى نوع من أنواع الهبة، وأن لها ثلاث صور: تارة تُقيّد بحياة الإنسان، وتارة تُقيّد بأنها له ولعقبه، وتارة تُطلق فإذا قيدت بحياة الإنسان رجعت إلى المعمر، إذا قيدت بأنها له ولعقبه، فهي له ولعقبه أي: للمعمر ولعقبه، وإذا أطلقت فهي للمعمر ولعقبه.
ولأبي داود والنسائي:«لا تُرقبوا ولا تُعمروا» الرُقبى هي: العُمرى، لكن سُمّيت بذلك، لأن كل واحد منهما يرقب موت صاحبه، فإن المعمر أو المرقب يرقب موت المرقب إذا مات سوف ترجع إليه يقول: فمن أرقب شيئا أو أعمر شيئا فهو لورثته، يعني: من بعده، وهذا كالحديث السابق.
يُستفاد من هذا الحديث فوائد: أولاً: أن العمرى والرقبى جائزة شرعا لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) أجازها.
ومن فوائده: اعتبار الشروط في العقود؛ لقوله في رواية مسلم:«هي لك ... إلخ» وهذا قد دل عليه القرآن ودلت عليه السُنة في مواضع كثيرة فقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}[المائدة: ١]. والأمر بالإيفاء بالعقود أمر بإيفاء أصل العقد ووصفه الذي هو الشروط وقال تعالى:{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً}[الإسراء: ٣٤].
وقال النبي (صلى الله عليه وسلم): «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرطه»، مفهومه كل شرط في كتاب الله فهو صحيح، وقال (صلى الله عليه وسلم): «المسلمون على شروطهم إلا شرطا أحلّ حرامًا أو حرّم حلالاً»، وعلى هذا فالشروط في العقود جائزة ما لم تتضمن حرامًا فإن تضمنت حرامًا فهي حرام، لو قال المقرض مثلاً للمقترض: أقرضتك ألف ريال على أن تخدمني كل يوم ساعة هذا حرام، لماذا؟ لأنه أحل حرامًا، إذ إن المقترض لا يجوز أن ينتفع من المقرض بشيء