الأولى، تُخلف الأولى، يعني: لن تُخلف عن أصحابك فتموت في مكة، ولعلك أن تُخلف أي: تُعمّر وتبقى عمرا طويلاً حتى ينتفع بك أقوام، ويُضر بك آخرون، وهذا الذي توقعه النبي (صلى الله عليه وسلم) وقع، فإن سعدا خلف وانتفع به أقوام وهم المسلمون في الفتوحات العظيمة وضر به آخرون وهم الكفار بما حصل فيهم من قتل وأسر وغنيمة لأموالهم، فوقع ما أخبر به النبي (صلى الله عليه وسلم).
«لكن البائس سعد بن خولة» يرثي له رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن مات بمكة، وهو من المهاجرين، يعني: يتوجع له الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن مات بمكة، وإن كان الأمر بيد الله هو الذي يُميت من شاء في أي مكان وفي أي زمان.
ثم قال: يا رسول الله: «أنا ذو مال»، مال هنا نكرة، والمراد بها التكثير أي: ذو مال كثير، «ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة»، أي: لا يرثني من أولادي وذريتي إلا ابنة لي واحدة، وليس المراد لا يرثني بالتعصيب؛ لأن سعد بن أبي وقاص له عصبة كثيرون بني عم، لكن لا يرثني من أولادي إلا ابنة لي واحدة، هكذا قال في ذلك الوقت، ولكنه «رضي الله عنه» مات عن سبعة عشر ابنا واثنتي عشرة بنتا، وكان يتوقع أنه لا يرثه إلا واحدة، حتى خلف ومات عن هؤلاء التسعة والعشرين ولذا.
يقول:«أفأتصدق بثلثي مالي؟ » هذا مبني على قوله: «لا يرثني إلا ابنة لي» يعني: وفي هذه الحال «أفأتصدق بثلثي مالي؟ » أي: باثنتين من ثلاثة، والهمزة في قوله:«أفأتصدق» للاستفهام، والمراد بالاستفهام هنا الاستعلام والاستفتاء، والفاء عاطفة، ولكن هل هذا مكانها أو أن مكانها قبل الهمزة، لكن قُدمت الهمزة عليها؛ لأن لها الصدارة؟ في هذا قولان لعلماء النحو:
الأول: أن الفاء في محلها وأن همزة الاستفهام دخلت على شيء مُقدّر، والفاء حرف عطف على ذلك المقدر، وهذا المحذوف يقدر بحسب ما يقتضيه السياق.
والقول الثاني: أن الفاء ليست في محلها، وأنها سابقة على الهمزة، لكن قدمت الهمزة عليها؛ لأن لها الصدارة فعلى الأول يكون التقدير جملة مناسبة للسياق.
«ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة»، أأتبرع بشيء من مالي فأتصدق بثلثي مالي، يكون المحذوف تقديره هكذا، وعلي الثاني يكون التقدير فأتصدق بثلثي مالي، ذكرنا في قراءة التفسير أن الثاني أقل تكلفا؛ لأن الأول قد يصعب تعيين المحذوف المقدر؛ لأنه يتصيد من السياق، وقد يصعب على الإنسان أن يقدر الشيء المناسب، أما الثاني فهو أسهل، لأنك تقول: حرف العطف الواقع بعد الهمزة حرف عاطف على الجملة السابقة، ولا تحتاج إلى تقدير.
قوله:«أتصدق بثلثي مالي»، يعني: أتبرع به صدقة، والصدقة ما يُراد بها وجه الله، وظاهر هذا اللفظ أنه (رضي الله عنه) أراد أن يتصدق به حالاً في حال حياته؛ لأن هذا مقتضى الصدقة، وفي بعض ألفاظ الحديث:«أوصي بثلثي مالي»، وعلى هذا فيكون سعد سأل عن الوصية لا عن الصدقة.