ومن فوائد الحديث: أن للأكل والشرب وإن كانا من مقتضى الطبيعة والجبلة أن لهما آداباً, وهذا قد ذكرناه في أصول الفقه, وأن من الأشياء الطبيعية الجبلية ما يكون له آداب هو بذاته ليس مشروعاً, ولكن له آداب مثل الأكل والنوم, لأن النوم والأكل تقتضيهما الطبيعة ولكن من صفات النوم أن يكون مستحباً النوم على اليمين.
ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي استجلاب البركة واستبقاؤها؛ وأنه لا ينبغي فعل ما يزيلها, ومن ذلك كيل الطعام عند استنفاقه فإنه مما يزيل البركة, فمثلاً: إذا كان عند الإنسان طعام من تمر أو حب أو غير ذلك, فالأفضل أن يأخذ منه نفقته كل يوم بدون كيل, لأنه إذا كيل نزعت البركة منه كما جاء ذلك في حديث عائشة رضي الله عنها, أنه كان لها طعام وكانت تأكل منه وتنفق منه قالت: فكلته ذات يوم, يعني: تريد أن تنظر ماذا بقي منه, فقني بسرعة نزعت البركة منه, وجه ذلك ظاهر, لأنك إذا كلته صار نوع اعتماد عليه بأن تقول مثلاً باقي عشرة أصواع فتعتمد عليها بعض الشيء وإذا لم تكله وتنفق فقط صار اعتمادك على الله أكثر فلهذا تنزع البركة منه إذا كيل, لأنه يعتمد عليه الإنسان, وإذا كان يأخذ وينفق يقول: قال الله عز وجل: «يا ابن آدم, أنفق يُنفق عليك». صار ذلك أقوى في الاعتماد والتوكل على الله.
١٠٠٨ - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, طعاماً قط, وكان إذا اشتهى شيئاً أكله, وإن كرهه تركه». متفق عليه.
"ما عاب" أي: ما ذكره بعيب مثل أن يقول: هذا مالح, هذا حامض, هذا خانس, أي: قليل الملح, يعني دالع, يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم لا يذكر طعاماً بعيب إطلاقاً سواء كان العيب يعود إلى الصنعة أو يعود إلى نفس الطعام, أحياناً يقدم الإنسان فاكهة منظرها حسن وجميل ومطعمها رديء فتجده يعيبها, هذا خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: "ما عاب طعاماً" هل يشمل هذا صنعة الطعام أو يختص بالطعام نفسه؟ الظاهر: الثاني؛ وأن الإنسان إذا عاب صنعة الطعام من أجل تقويم أهله في الصنعة مثل أن يقول لأهله اليوم الأشياء المالحة, العشاء حار, تأخرتم في طبخه, الشاي مر وما أشبه ذلك هذا لا بأس به, لأن العيب هنا للصنعة أو للصانع وليس للطعام, ثم بين هذي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «كان إذا اشتهى شيئاً أكله» على ما هو عليه, وإن لم يشتهه تركه, ولم يقل شيئاً, وبهذا يستريح الإنسان من الهم والحزن, إذا قدم الطعام إن اشتهيته فكل وإن كرهته فلا تأكل.