للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال بعض أهل الحديث: لم يرو أبو الزبير حديثًا أنكر من هذا.

فهذا جملة ما ردَّ به خبر أبي الزبير، وهو عند التأمل لا يوجب رده ولا بطلانه.

أما قول أبي داود: الأحاديث كلها على خلافه، فليس بأيديكم سوى تقليد أبي داود، وأنتم لا ترضون ذلك، وتزعمون أن الحجة من جانبكم، فدعوا التقليد، وأخبرونا أين في الأحاديث الصحيحة ما يخالف حديث أبي الزبير؟ فهل فيها حديث واحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتسب عليه تلك الطلقة، وأمره أن يعتد بها، فإن كان ذلك، فنعم والله هذا خلاف صريح لحديث أبي الزبير، ولا تجدون إلى ذلك سبيلًا، وغاية ما بأيديكم "مره فليراجعها"، والرجعة تستلزم وقوع الطلاق، وقول ابن عمر، وقد سئل: أتعتد بتلك التطليقة؟ فقال: "أرأيت إن عجز واستحمق"، وقول نافع أو من دونه: "فحسبت من طلاقها"، وليس وراء ذلك حرف واحد يدل على وقوعها والاعتذاد بها، ولا ريب في صحة هذه الألفاظ ولا مطعن فيها، وإنما الشأن كل الشأن في معارضتها، لقوله: "فردها علي ولم يرها شيئا"، وتقديمها عليه، ومعارضتها لتلك الأدلة المتقدمة التي سقناها، وعند الموازنة يظهر التفاوت، وعدم المقاومة، ونحن نذكر ما في كلمة كلمة منها.

أما قوله: "مره فليراجعها"، فالمراجعة قد وقعت في كلام الله ورسوله على ثلاثة معان: أحدها: ابتداء النكاح، كقوله تعالى: {فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله} [البقرة: ٢٣٠]. ولا خلاف بين أحد من أهل العلم بالقرآن أن المطلق هاهنا: هو الزوج الثاني، وأن التراجع بينها وبين الزوج الأول، وذلك نكاح مبتدأ.

وثانيهما: الرد الحسي إلى الحالة التي كان عليها أولًا، كقوله: لأبي النعمان بن بشير لما نحل ابنه غلامًا خصه به دون ولده: "رده"، فهذا رد ما لم تصح فيه الهبة الجائزة التي سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جور، وأخبر أنها لا تصلح، وأنها خلاف العدل، كما سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى.

ومن هذا قوله لمن فرق بين جارية وولدها في البيع، فنهاه عن ذلك وردَّ البيع، وليس هذا الرد مستلزمًا لصحة البيع، فإنه بيع باطل، بل هو رد شيئين إلى حالة اجتماعهما كما كانا، وهكذا الأمر بمراجعة ابن عمر امرأته ارتجاع ورد إلى حالة الاجتماع كما كانا قبل الطلاق، وليس في ذلك ما يقتضي وقوع الطلاق في الحيض ألبتة.

وأما قوله: "أرأيت إن عجز واستحمق"، فيا سبحان الله! أين البيان في هذا اللفظ بأن تلك الطلقة حسبها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والأحكام لا تؤخذ بمثل هذا، ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حسبها عليه، واعتد عليه بها لم يعدل عن الجواب بفعله وشرعه إلى: أرأيت، وكان ابن عمر أكره ما إليه "أرأيت"، فكيف يعدل للسائل عن صريح السنة إلى لفظة "أرأيت".

الدالة على نوع من الرأي سببه عجز المطلق وحمقه عن إيقاع الطلاق على الوجه الذي أذن الله

<<  <  ج: ص:  >  >>