للإنسان أن يدل لأحد بسؤال أو استشراف نفس إلا عند الضرورة فلها أحكام، وأما ما دمت في غنى عن سؤال الناس فلا تسأل الناس فإن الناس وإن جادوا وإن كانوا كرماء فإن طبيعة النفوس تشعر بالمنة من المعطي على الآخذ وإن كان الرجل المؤمن لا يمن على الناس ولا يظهر أن له منه عليهم، لكن النفوس تأبى إلا أن تشعر بذلك، ولذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم يد المعطي هي اليد العليا ولكن بمن نبدأ هل نعطي الأجانب أم من نعول؟ قال:"وابدأ بمن تعول" وأول من يجب عليك عونه نفسك، ولهذا جاء في حديث آخر:"ابدأ بنفسك ثم بمن تعول"، فالإنسان يبدأ بنفسه، ولكن لا حرج من الإيثار كما هو معروف. قال:"أمك وأباك" وكان مقتضى السياق أن يقول: أمك وأبيك بدلًا من "من" بدل بعض من كل؛ لأن "من" اسم موصول للعموم، وما بعده تفصيل له، لكنه عدل عن ذلك وقال أمك وأباك لأن العدول بالأسلوب عما يتوقع بوجب الانتباه:(لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلوة والمؤتون الزكوة والمؤمنون)[النساء: ١٦٢]. هنا (والمقيمين) جاءت منصوبة بين مرفوعين إذا قرأها الإنسان سيقول ما الذي أوجب خروج هذه الكلمة من طريق جاراتها وكذلك الالتفات: (ولقد أخذ الله ميثاق بنى إسراءيل .. )[المائدة: ١٢]. ولم يقل وبعث، فالرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إذا كان هذا لفظه عدل عما يتوقع من البدلية إلى النصب حتى ينتبه السامع ويقول ما الذي أوجب نصب هذا، نقول: هذا منصوب بفعل محذوف، التقدير: أعط أمك وأباك وأختك وأخاك، فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بجانب الأنوثة؛ لأن الإناث في الغالب أحوج من الرجال، أما بين الأم والأب فهناك أمر ثان غير حاجة النساء وهي أن الأم أحق بالبر من الأب، لأن المشقة التي حصلت للأم أعظم بكثير مما يحصل للأب؛ لأن مشقة الأم اضطرارية ومشقة الأب اختيارية.
أما بالنسبة لخروج الولد من هذا ومن هذا فالفرق كبير جدًا، الولد خرج من أبيه شهوة، لكن خرج من أمه كرهًا ووهنًا على وهن، أما بالنسبة للمشقات الأخرى كالإنفاق وغيره، فالإنفاق إنما يسعى لولد باختياره، لكن مشقة الأم عند الحمل، والوضع والحضانة أمر اضطراري فلهذا كانت الأم أحق بالبر، أما الأخت فقدمها لأنها في الغالب أحوج من الأخ.
"وأختك وأخاك ثم أدناك فأدناك"، أدنى هنا بمعنى أقرب فهي من دون القرب وليست من دون المنزلة؛ لأن كلمة "دون" تكون في المنازل وتكون في القرب فهنا أدنى يعني: الأقرب فالأقرب،