ففي هذا الحديث: نهى الحاكم أن يقضي بين اثنين وهو غضبان، لماذا؟ لأنه -أي: الغضب- يمنعه من تصور المسألة في أولها ثم تطبيق الحكم الشرعي عليها، وهذا يؤثر في الحكم؛ لأنه سبق لنا أن الحكم لابد له من ثلاثة أمور: الأول: تصور القضية، والثاني: العلم بالشرع، والثالث: تطبيق الشرع على هذه القضية، والغضبان لا شك أنه لا يدرك واحدة من هذه لكننا نقول: الغضب ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
طرفان ووسط؛ الطرف الأول: أول الغضب الذي يدرك الإنسان فيه ما يتصوره ويدرك على تطبيق الأحكام الشرعية عليه فهذا لا يمنع من القضاء، يعني: له أن يقضي ولو كان غضباناً، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بين الزبير وخصمه وهو غضبان، لكنه غضب لا يمنعه من تصور القضية ولا من تطبيق الأحكام الشرعية عليها.
الطرف الثاني: غضب شديد لا يحس الإنسان فيه بنفسه ولا يدري أهو في أرض أو في سماء، فهذا لا عبرة بقوله ولا يقضي بين الناس، وهذا متفق عليه بين العلماء.
والثالث: الوسط الذي لا يملك نفسه، لكنه يدرك ويدري أنه في أرض أو في سماء، ولكن الغضب كأنه شيء يكرهه على أن يقول ما يقول أو يفعل ما يفعل، فهذا موضع خلاف بين العلماء في تنفيذ الأحكام التي تجري في مثل هذا، وأما القضاء فإنه لا يقضي.
فصار القاضي لا يقضي في حال الغضب المتوسط والغضب الشديد النهائي، أما الغضب اليسير فإنه لا بأس أن يقضي به، لأنه لا يكاد يخلو مجلس القاضي من ذلك، من الذي يأتي من الخصمين متعجباً؟ قل ذلك، ولهذا تجد أنه في مكان القضاء والحكم، تجد اللفظ والأصوات ترتفع وربما يحصل المشاتمة بين الخصوم فلابد أن يثير غضب القاضي، لكن الغضب اليسير الذي لا يمنعه من تصور المسألة ولا من العلم بالشيء ولا من تطبيق الشرع عليها هذا لا يضره.
ففي هذا الحديث فوائد: منها: أنه ينبغي للحاكم أن يكون فارغ البال عند الحكم، أي: لا يتعلق باله بشيء سوى القضية التي بين يديه؛ لأن ذلك أقرب إلى إصابة الصواب.
ومنها: أنه لا يجوز أن يقضي في حال الغضب، والمراد به: الحال المتوسطة والحال الشديدة، ولكن لو خالف فحكم فهل ينفذ حكمه؟ قال العلماء: إن أصاب الحق في الحكم نفذ وإن لم يصب الحق لم ينفذ، وقال آخرون: لا ينفذ مطلقاً، ويجب إعادة القضية إذا برز عنه الغضب.