أما حجة الأولين فقالوا: إن النهي عن القضاء في حال الغضب لئلا يخطئ في الحكم، فإذا أصاب فقد زالت العلة فينفذ، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد أنه إذا خالف فأصاب فالحكم نافذ ولا يحتاج إلى إعادة القضية.
وأما حجة الآخرين فقالوا: إن هذا عمل نهي عنه لذاته، والقاعدة الشرعية "أن ما نهي عنه لذاته فإنه لا ينفذ"؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»، وهذا الغاضب حكم حكماً ليس عليه أمر الله ورسوله، بل فيه نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك وحينئذ لا يكون نافذاً، ولكن القول الأول أقرب إلى القواعد وإلى ملاحظة المعنى، إنه إذا أصاب الحق نفذ الحكم وأنه أيسر للعامة؛ لأننا لو قلنا بعدم الحكم الأول ووجوب إعادة القضية ربما تحتاج إلى طول، ولاسيما في المدن الكبيرة التي تكثر فيها المحاكمات، فقد يمضي عليه سنة وسنتان وهو لم يصل إليه الدور وحينئذ تحصل مفاسد.
ومن فوائد الحديث: أن القاضي لا يحكم بين اثنين في حال تشويش فكره بغير غضب، مثل: أن يكون في هم شديد أو غم شديد أو اشتغال بمريض أو يكون هو نفسه مريضاً مرضاً لا يتصور معه القضية، وهذا القياس على الغضبان قياس جلي واضح؛ لأن العلة معلومة أشار إليها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:«وهو غضبان»، فإن الغضب يمنع من تصور القضية واستحضار العلم وتصور تطبيق الأحكام الشرعية على هذه القضية، وعلى هذا فإذا جاء الخصوم إلى القاضي وقد اغتسل للجمعة وهو الآن يرتعد برداً فهل يحكم بين الخصوم في هذه الحال؟ لا يحكم؛ لأنه مشغول، الرجل الآن لا يمكن أن يتصور القضية أو الحكم على الوجه الذي ينبغي، فيقال: انصرفوا عنه حتى يزول ما به من ألم البرد، وكذلك الحر المزعج، لو كان هناك حرارة شديدة والخصوم طلبوا منه أن يقف لهم في حر الشمس في أشد القيظ، قالوا: لابد أن تقضي بيننا، لا تمش خطوة حتى تقضي بيننا وهو الآن حران وسط الشمس في أيام القيظ، فهنا له أن يصرفهم، ولا يقال: إن الرجل امتنع عن الحكم بين الناس وقد أمر أن يحكم بين الناس؛ لأنه هنا يكون معذوراً.