وفيه أيضاً وهو من الفوائد: أنه لا يجوز القضاء على الغالب؛ لأنه إذا نهى عن القضاء بين اثنين قبل أن يدلي الثاني بحجته مع حضوره فمع غيبته من باب أولى.
فإن قال قائل: أليس النبي صلى الله عليه وسلم قال لهند بنت عتبة التي شكت إليه بقولها: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيها من النفقة ما يكفيها وبنيها، أليس أذن لها أن تأخذ من ماله بغير ماله؟
الجواب: بلى، ولكن هذا قال العلماء: إنه ليس قضاء، ولهذا لم يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم زوجها حتى يعرف هل عنده ما يدفع هذه الدعوى أو لا؟ فهو من باب الفتوى.
ومن فوائد الحديث: أن الإنسان يجب أن يكون سامعاً للدعوى، فلا تكفي الإشارة فيمن يمكنه النطق؛ لأن الإشارة إنما هي دلالة فقط على ما في قلب العبد، لكن اللسان هو الذي يعبر عما في قلبه تعبيراً صحيحاً، ولهذا قال:"حتى تسمع".
فإن قال قائل: إذا كان أحدهما أخرس لن يسمع حجته؟
قلنا: يمكن بالكتابة، فإن كان لا يحسن الكتابة فبالإشارة، فإن كانت الإشارة لا تفهم فبالوكالة، يوكل من يحاج عنه؛ لأنه لابد من أن نعرف ما عند الخصم.
ومن فوائد الحديث: حسن توجيه النبي صلى الله عليه وسلم للقضاة الذين يحكمون بين الناس وأنك لا تسمع من جانب دون الآخر.
ومن فوائد الحديث: أننا لا نحكم على الشخص حتى نسمع كلام الخصم، يعني: لو سمعنا شخصاً يسب من يكرهه، أي: من يكرهه السامع فلا يجوز أم نأخذ بقوله حتى نعرف قول الطرف الآخر، ولهذا نجد بعض الناس -نسأل الله لنا ولهم الهداية- يأخذون الحكم على الناس وتصنيفهم كما يقال، يأخذون ذلك من قول الخصم سواء كان إيجابياً أو سلباً وهذا غلط؛ لأن النفوس مجبولة على محبة من تحب الدفاع عنه وعلى كراهة من تكرهه ورميه بالسب والشتم.
ويشبه هذا الذي أرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم ما حصل لداود -عليه الصلاة والسلام-، فقد ذكر الله تعالى قصته في صورة شيقة فقال:{وهل آتاك نبؤا الخصم}[ص: ٢١]. والاستفهام هنا للتشويق كأنه يشوق إلى استماع هذه القصة، {إذا تسوروا المحراب}[ص: ٢١]. تسوروا مع أن الخصم مفرد لكنه مفرد بمعنى الجمع، المحراب مكان الصلاة:{إذ دحلوا على داود ففزع منهم}