للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لكن الفقهاء -رحمهم الله- خصصوا هذا العموم بما إذا كان الأمر مما يقضى فيه النكول، وأما إذا كان لا يقضى فيه بالنكول، فإنه لا يلزم المدعى عليه الحلف، مثاله: لو أن رجلا ادعى على امرأة أنها زوجته وقال: هذه زوجتي فقالت: لا، لست بزوجة له، فعلى ظاهر الحديث نقول للمدعي: هات البينة؛ لأن المرأة أنكرت، فإذا قال: ليس عندي بينة أو قال: عندي بينة وفقدت أو جنت أو ما أشبه ذلك، ماذا نعمل؟ نوجه -على ظاهر الحديث- الدعوى إلى المرأة ونقول: احلفي أنه ليس زوجك، إذا أبت وقالت: لا أحلف هل يقضى عليها بالنكول؟ لا، لكن ظاهر الحديث أنه يقضى عليها بالنكول؛ لأن الرسول جعل اليمين هي التي نتفي الدعوى، وهذا فيه نظر -أعني: أن نجعل الحديث عاما - لأن في هذا مفاسد كثيرة.

فقد يكون بعض الناس تتحرج أو تتورع أن تحلف وإن كانت صادقة فيحصل بذلك شر كثير؛ ولهذا خصها الفقهاء -رحمهم الله- بما إذا كان الدعوى لا يقضى فيها بالنكول، فإذا كان لا يقضى فيها بالنكول، فإنه إذا نكل المدعى عليه لم يحكم عليه بمقتضى دعوى المدعي.

البينة ذكرنا أنها كل ما بان به الحق سواء كانت بينة منفصلة كالشاهدين مثلا أو بينة بالقرائن والأحوال، وهو كذلك، وقد مر علينا مثال من هذا وهو القضاء بالشاهد واليمين قلنا: الشاهد وحده لا يكفي، لكنه عزز باليمين لما رجح جانب المدعي بالشاهد صار اليمين مقررا لدعواه.

وهذا الحديث يستفاد منه فوائد: أولا: سد باب الفساد لقوله: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى أناس دماء قوم وأموالهم"، وهذه هي قواعد الشريعة العامة، لأن الشريعة إنما جاءت باستجلاب المصالح ودفع المفاسد وتأمل هذا في جميع مشروعاتها.

ثانيا: ظاهر الحديث أن الدعوى مقبولة بأي حال كان، وقد ذكرنا أن ذلك مشروط فيما إذا كانت الدعوى ممكنة، فأما دعوى المستحيل فإنها لا [تقبل]، وضربنا لذلك مثلا.

ولكن هل من المستحيل ما يستحيل عادة بحسب مقام المدعى عليه؟ إذا فرضنا أن رجلا من الناس قال: إن الملك اشترى مني حزمة علف هل يمكن هذا عادة؟ لا، جاء بالملك عند القاضي قال: هذا اشترى مني حزمة علف بربع ريال، يعني: فرضا، هل نقول: إن المستحيل ما استحال عادة وواقعا؟ يرى الإمام مالك رحمه الله أن الدعوى على مثل هؤلاء بمثل هذا الشيء الصغير لا تقيل، لكن لو ادعى أن يستولي الأمير أو الوزير على مثل هذا، وما ذهب إليه الإمام مالك هو الصواب؛ لأننا لو قبلنا سماع الدعوى على مثل هؤلاء بمثل هذه الأشياء الزهيدة لحصل في ذلك مضرة، كل إنسان ادعى على إنسان ذي شرف وجاه، ويريد أن يحطم شرفه

<<  <  ج: ص:  >  >>