للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإن قال قائل: كيف يقول: "اللهم غفر لي"، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فيمكن أن يجاب: بأن هذا قبل أن تنزل الآية، وهذا فيه شيء من الضعف؛ لأنه لا يمكن أن نجزم بذلك إلا بعد العلم بالتاريخ، وأبو موسي الأشعري من وفود الأشعريين المتأخرين، ولكن يقال: جواب أحسن من ذلك، وهو أن دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالمغفرة من جملة أسباب مغفرة الله عز وجل، فيكون الله تعالى وعده بأن يغفر ما تقدم من ذنبه وما تأخر لأسباب، ومنها: أن يستغفر الله عز وجل كما أن الله قال: {إنَّ الله وملائكته يصلُّون على النبي}، ثم قال: {يا أيها الذين آمنوا صلُّوا عليه} [الأحزاب: ٥٦].

قد يقول قائل: ما الفائدة من صلاتنا عليه وقد أخبرنا الله بأنه يصلي عليه؟

نقول: من أسباب صلاتنا عليه: أن ندعو له بذلك، وعلى هذا فلا منافاة.

وقوله: "خطيئتي وجهلي" أي: ما فعلت عن جهل؛ لأن الرسول لا يعلم الغيب، وقد يفعل الشيء يظنه صوابًا فيكون خطأ، إلا أنه يفرق بينه وبين غيره بأنه لا يقر على الخطأ.

"وإسرافي في أمري"، الإسراف: مجاوزة الحد، والأمر هنا بمعنى الشأن؛ أي: إسرافي في كل شئوني، وهذا من كمال صفاته صلى الله عليه وسلم أنه يكره الإسراف ويسأل الله تعالى أن يغفر له ما أسرف، والإسراف كما سمعتم: مجاوزة الحد، والإنسان بشر قد يتجاوز الحد بمأكله أو مشربه أو ملبسه أو مسكنه أو مقاله أو فعاله، الإنسان معرض لهذا.

"وما أنت أعلم به مني"، كيف يمكن أن نقول: إن الله أعلم بك منك في أفعالك؟ نقول: نعم، الله أعلم؛ لأن علمه بما فعلت ثابت لا يتطرق إليه نسيان، وعلمي أنا بما فعلت أنسى، وإلا فمن المعلوم أن ما لم أفعله لا أؤاخذ به، لكن ما فعلته فقد أنساه، وحينئذٍ أكل علمه إلى الله، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "ما أنت أعلم به مني" ليس المراد الذنب في المستقبل؛ لأن الذنب ف المستقبل لا مؤاخذة فيه، المراد: الذنب الماضي الذي قد يكون الإنسان نسيه، فيسأل الله أن يغفر ما هو أعلم به منه.

"اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي"، هذا الذكر سيكون فيه إشكال أولاً: جدّي الجد ضد الهزل، وهو ما قصده الإنسان بلفظه أو بفعله؛ لأن الإنسان قد يلفظ لفظًا يكون مازحًا هازلاً، وقد يفعل فعلاً يكون هازلاً مازحًا، وقد يكون جادًا في ذلك، فالمراد بالجد هنا: ضد الهزل، بدليل أنه عطف عليه قوله: "وهزلي".

فإن قال قائل: وهل الهزل يؤاخذ به الإنسان؟

نعم يؤاخذ، أحيانًا يكون الهزل من كبائر الذنوب، وأحيانًا يكون الهزل مما يخرج الإنسان

<<  <  ج: ص:  >  >>