يأتي آخرًا؛ أي: بعد قولي هذا؛ لأن قول الإنسان محفوف بزمنين: زمن سابق، وزمن لاحق، فما فعله في الزمن السابق فهو ما قدم، وما يفعله في الزمن اللاحق فهو ما أخر، "وما أسررت وما أعلنت" أيضًا ما يفعله الإنسان إما أن يفعله سرًا، وإما أن يفعله علنًا، ولاشك أن ما يفعله جهرًا أشد عند الله تعالى مما يفعله سرًا، وهذا باعتبار الذنوب والمعاصي، فإن من أسر بالذنب ليس كمن أعلنه، الثاني أشد وأقبح، "وما أنت أعلم به مني" هذه مع الأول مكررة، لكن كما قلنا: الدعاء لا بأس فيه من التكرار، "وما أنت أعلم به مني" أي: مما فعلت.
"أنت المقدم وأنت المؤخر"، أنت المقدم للأشياء وأنت المؤخر للأشياء، كم من شيء يتوقع الإنسان أن يقع ثم يتأخر، وكم من شيء لا يتوقعه الإنسان ثم يأتي، فالمقدم هو الله، يقدم ما شاء، مثلاً: يقدم فوز إنسان ويؤخر فوز إنسان، يقدم حياة إنسان ويؤخر حياة إنسان، يقدم موت إنسان ويؤخر موت إنسان، فالأمر كله بيده عز وجل "وأنت على كل شيء قدير"، وضد القدرة العجز وهو قوي على كل شيء وضد القوة الضعف وبينا شواهد ذلك من القرآن.
في هذا الحديث فوائد: أولاً: فضيلة الدعاء بهذا لوجهين: الأول: ما يحصل به من فائدة للإنسان، والثاني: التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن فوائد الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يقع منه الخطأ؛ ولهذا طلب المغفرة.
فإن قال قائل: لعل النبي صلى الله عليه وسلم قصد بذلك التعليم، وأنه لم يقع منه الخطأ.
فالجواب: هذا خلاف الظاهر؛ لأنه لو قصد التعليم لقال: استغفروا الله تعالى من الخطايا، أو قولوا: اللهم اغفر لي خطيئتي، ويرد على هذا أيضًا بأن الله تعالى صرح بأن للرسول صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لذنبه وللمؤمنين، فقال:{فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات}[محمد: ١٩].
إذن لو قال قائل: إذا قررت هذا فما الفرق بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين غيره من البشر؟
فالجواب: الفرق من عدة أمور، أولاً: النبي لا يمكن أن يقع منه الشين إطلاقًا، ثانيًا: لا يمكن أن يقع منه التكذيب، ثالثًا: لا يمكن أن يقع منه ما يخل بالشرف والأخلاق الفاضلة، رابعًا: أنه لا يقع منه شيء من الكبائر إلا عن اجتهاد، ثم يمنّ الله عليه بالتوبة، خامسًا: أنه لو قدر أنه حصل منه صغيرة من الصغائر فإنه لا يقرّ عليه لابد أن ينبَّه لها وأن يقلع عنها، أما غيره فكل هذا يمكن في حقه وكفى بذلك شرفًا- عليهم الصلاة والسلام- أن يكونوا منزهين عن مثل هذه الأمور.
ومن فوائد الحديث: أن الإسراف عرضة للعقوبة لقوله: "وإسرافي في أمري"، ويدل لذلك