ولهذا أنكر شيخ الإسلام رحمه الله على الفقهاء الذين يحددون بالمسافة, وقال: أين الذين يقدرون هذه المسافة التي تقدر بالأميال والفراسخ, ثم الأذرع, ثم الأصابع, ثم الشعير, ثم الشعرة, فمن يقدرها؟ أين المساحون الذين يصلون إلى هذه الدقة, ثم كيف يمكن أن نقول: رجلان بينهما كشعرة البرذون: الذي وراءها يكون مسافرًا, والثاني مقيم؛ يعني: لو اضطجع على الحد صار رجلاه مقيمة ورأسه مسافر, فأين هذا الدليل؟ وما ذهب إليه رحمه الله لا شك أنه هو المتعين, ليس عندنا دليل على التقدير, والتقدير يحتاج إلى توقيف من الشرع, يعني: لو جاء من الشرع أربعة فراسخ, أو أربعة برد, أو ما أشبه ذلك, قلنا: لا بأس, على العين والرأس, ولكننا نقارب, نقول: هذه المسافة ذراعين, أو ما أشبه ذلك لا يضر؛ لأننا نعلم يقينًا أن الشرع لا يمكن أن يقدر إلى هذا الحد, إنما الذي يعكر على القول بهذا هو عدم الانضباط؛ لأنه قد يقول بعض الناس: هذا سفر, وبعضهم يقول: ليس بسفر, لكنه رحمه الله قال: المسافة الطويلة في الزمن القصير سفر, والزمن الطويل في المسافة القصيرة سفر, والضابط: أن كل ما يتهيأ له الإنسان ويستعد له فهو سفر, فبقطع النظر عن المقومات الموجودة في العهد الحاضر؛ لأن الآن أي إنسان يسافر لو أبعد ما يكون فإنه لا يحتاج إلى حمل متاع ولا إلى قرب الماء ولا غيره, ولكن في التقدير أنت لو ذهبت مثلًا عن بلدك مسافة فرسخ لكنك رجعت في يومك هل تستعد لهذا؟ لا, لكن لو بقيت يومين أو ثلاثة استعددت له؛ ولهذا قال أنس: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج ثلاثة أميال أو فراسخ صلى ركعتين». ولنجعلها فراسخ لأنها أبعد, وإذن «إذا سافر» بماذا نحدده؟ نحدده بالعرف, لماذا؟ لأن كل ما جاء مطلقًا ولم يحدد بالشرع فإنه يرجع فيه إلى العرف. هذه القاعدة, هذه واحدة.
ثانيًا: أن التقدير يحتاج إلى توقيف من الشرع يحدده فإذا لم يوجد بقي على إطلاقه.
ثالثًا: أن التقدير الدقيق الذي قاله الفقهاء - رحمهم الله - يجزم الإنسان جزمًا لا شك فيه أن هذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول: «فأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة» , «فأراد أن يتطوع»؛ أي: يصلي نافلة.
فإن قال قائل: أليست الفريضة تطوعًا؟
فالجواب: بلى, لكن لا مانع أن نخص العام بشيء من أنواعه, ومن المعلوم أن الفريضة هي أعلى أنواع الطاعة كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: «وما تقرب إلي عبدي بشيء