لماذا؟ لأن الأولى نافية للجنس، أي: لا رجل في البيت، أي: لا يوجد أحد من هذا الجنس، لكن إذا قال:"لا رجل في البيت" عرفنا أنها نافية للواحد؛ يعني: ليس بالبيت رجل واحد، بل رجلان أو ثلاثة أو عشرة، ولهذا يقول:"لا رجل في البيت، بل عشرة"، لكن لو قال:"لا رجل في البيت" لا يمكن أن يقول: "بل عشرة"، والفرق ظاهر، فلننظر إلى هذا الحديث:"لا صلاة بحضرة طعام" هل هي نافية للجنس أم لا صلاة بل صلاتان؟ لا، إذن هي نافية للجنس، أي: أن الصلاة: جنس الصلاة فرض أو نفل ذات ركوع وسجود أو جنازة هذا النفي هل هو نفي للوجود يعني لا يمكن أن يصلي أحد بحضرة الطعام، أو نافية للصحة، أو نافية للكمال؟ هذا ينبني على قاعدة معروفة وهي أن الأصل في النفي وروده على نفي الوجود هذا الأصل، فإن تعذر حمله على ذلك لكون الشيء موجودا انتقلنا إلى نفي الوجود الشرعي وهو نفي الصحة؛ لأن ما لا يصلح شرعا وجوده وعدمه سواء في الشرع، فإن تعذر ذلك يعني: دل الدليل على صحة هذا المنفي انتقلنا إلى مرحلة ثالثة وهي نفي الكمال، إذن نفي الوجود هنا متعذر؛ لأن الإنسان قد يصلي بحضرة الطعام، وقد يصلي وهو يدافعه الأخبثان، نفي الصحة ينبني على وجود الخشوع في الصلاة، إن قلنا: إن الخشوع في الصلاة واجب، وأن الإنسان إذا شغله شيء عن حضور القلب في الصلاة كلها أو أكثرها فصلاته باطلة فالنفي للصحة، وإذا قلنا: إنه - أي: الخشوع في الصلاة - سنة وليس بواجب فالنفي هنا للكمال.
بقي أن يقال: هل يمكن أن نحمله على نفي الكمال مع إمكان جمله على نفي الصحة؟
الجواب: لا؛ لأن الأصل في النفي نفي الحقيقة لا الكمال، فنحن قد بحثنا هذا في أول الباب، وبينا أن الذي يظهر ما ذهب إليه الجمهور من أن الخشوع في الصلاة سنة مؤكدة، وإن كان ظاهر كلام شيخ الإسلام رحمه الله في "القواعد النورانية" أنه واجب؛ لأنه أخذ يستطرد في الأدلة ويقول: ومما يدل على وجوب الخشوع ثم يسوق الدليل.
وقوله:"بحضرة الطعام" هذا ليس على إطلاقه، بل بحضرة طعام هو في شوق إليه، وتناوله في حقه حلال لابد من هذا القيد، فإن لم يكن مشتاق إليه لم يدخل في الحديث، وإن كان مشتاقا لكن لا يحل له فإنه لا يدخل في الحديث كما سنبين في الفوائد. "ولا وهو بدافعه الأخبثان"، أي: ولا والمصلي؛ فتكون الواو للحال وهو يعود على المصلي، "ويدفعه" أي: تارة يقوى على الصبر على الأخبثين، وتارة لا يقوى مدافعة، و"الأخبثان" هما البول والغائط، والخبث هنا من النجاسة؛ يعني: أنهما نجسان، ونجاستهما بالإجماع بل بالنص والإجماع.
فلنعد إلى الفوائد في هذا الحديث، من الفوائد: اعتناء الشرع بالصلاة، وأنه ينبغي للإنسان