يحتمل أن المراد بالتطهير: وضع الطيب فيها إما بالبخور, أو بالأدهان أو ما أشبه ذلك, ويحتمل أن يراد بالتطيب: إزالة آثار التنظيف, كقول عائشة رضي الله عنها في السواك الذي دخل به أخوها على النبي صلى الله عليه وسلم وهو محتضر قالت: «فقضمته وطيبته». أي: جعلته طيبًا يمكن التسوك به, والمعنيان كلاهما صحيح, فإن تطييب المساجد بهذا وهذا من الأمور المطلوبة.
في هذا دليل على مسائل: منها: حرص النبي صلى الله عليه وسلم أن تجتمع أمتته في هذه العبادة العظيمة - الصلاة - في مكان واحد؛ ولذلك أمر ببناء المساجد.
ومنها: أن بناء المساجد فرض كفاية؛ لأن الأصل في الأمر الوجوب؛ والمقصود من بناء المساجد: هو تحصيل المسجد, وهذا يكفي من الواحد والاثنين والثلاثة والأربعة, فيكون بناؤها فرض كفاية, وقد ورد في فضل بناء المساجد أحاديث منها قوله صلى الله عليه وسلم: «من بنى لله مسجدًا بنى الله له بيتًا في الجنة». لأن الجزاء من جنس العمل.
ومنها: أنه يجب أن يوضع فغي كل حي مسجد وهذا يختلف, يعني: من ناحية الحكم يختلف إذا كانت الأحياء صغيرة متقاربة, هل نقول: يلزم أن نبني في كل حي مسجدًا؟ لا, لكن إذا كانت كبيرة أو متباعدة وجب أن نبني في كل مسجدًا؛ لأن المقصود لا يحصل إلا بهذا.
من فوائد هذا الحديث: مشروعية تنظيف المساجد وهو نوعان: نوع واجب, وذلك بتنظيفها من القذر, ودليل هذا قوله صلى الله عليه وسلم حين بال الأعرابي قال: «أريقوا على بوله سجلًا من ماء» أو قال: «ذنوبًا من ماء». ويدل لذلك أيضًا قوله تعالى: {أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود} [البقرة: ١٢٥].
والثاني: تنظيف عن الأذى الذي ليس بقذر, فهذا الأصل فيه أنه سنة كأن تلقط ورقة ساطقة أو ريشة ساقطة أو ما أشبه ذلك, لكن إن خيف أن تجتمع هذه الأوساخ حتى تكون رائحة سيئة خبيثة, فالتنظيف حينئذٍ يكون واجبًا لإماطة الأذى.
ومن فوائد هذا الحديث: تطييب المساجد, وهو كما قلنا في الشرح «تطييب» بمعنى: إزالة أثر الأذى والقذر وما أشبه ذلك, وتطييب بمعنى: وضع الطيب فيها, وكلاهما مشروع.
فإن قال قائل: ما بالك تفصل هذا التفصيل مع أن الحديث واحد: «أمر ببناء المساجد وأن تنظف وتطيب»؟