وأما الجبن فإنه يمنع ما ينبغي بذله من النفس، وضده الشجاعة، واعلم أن منع ما لا ينبغي بذله من المال ليس ببخل، ولكنه اقتصاد واعتدال، فإذا كان يتهور بالإنفاق وإنما ينفق المال حسب ما شرعه الله ورسوله فهذا ليس ببخيل، وإنما هو مقتصد ومعتدل في إنفاقه، والله عز وجل يقول:{وكلوا واشربوا ولا تسرفوا}[الأعراف: ٣١]. ولهذه المناسبة أود أن أنبه على أن بعض الناس يتبع النساء فيما ينفق، حتى إنك تجده يشتري أشياءً ليس لها داعٍ وليس لها حاجة، كل ذلك من أجل إرضاء أهله، وهذا أمر لا ينبغي، لا الذي ينبغي أن يكون الإنسان معتدلًا في إنفاقه، ويمكنه أن يقنع زوجته أو من طلب من أهله أن يشتري كذا وكذا بما يعطيه الله عز وجل من البيان والإقناع.
وأما الجبن فإنه لا بكون جبنًا إلا إذا كان في موضعٍ ينبغي فيه الإحجام، ولهذا كان لا ينبغي أن تقدم على أمرٍ إلا بعد أن تعرف النتيجة كما قال المتنبي [الكامل]:
الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أول وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعتا لنفسٍ مرةٍ ... بلغت من العلياء كل مكان
فالإنسان لا يتهور، بل ينظر ويتأمل، فإذا كان للإقدام مكان أقدم، وإذا كان للإحجام مكان أحجم، وكمل قيل أيضًا- وأظنه للمتنبي-[الطويل]:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا ... مضر كوضع السيف في موضع الندا
"وضع الندى" يعني: الكرم، "في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندا" فإذا كان حاجة تقتضي الكلام والعفو والصفح صار السيف وضعه مضر بالعلا، فإذا كان الأمر بالعكس صار الكرم وضعه مضرًا بالعلا، فإذا كان الأمر بالعكس صار الكلام وضعه مضرًا بالعلاـ والمهم: أن الجبن الذي هو ضد الشجاعة لا يكون جبنًا إذا كان المقام لا يقتضي الإقدام، ومن ثم ينبغي للإنسان أن يتأمل في أموره، وألا يتعجل حتى يعرف النتائج.
"وأعوذ بك من أرد إلى أرذل العمر" أرذله: أنقصه وأردؤه والإنسان يرد إلى أرذل العمر إما لعله طارئة، وإما لتقدم السن، الكبير إذا كبر يرد إلى أرذل العمر تجده مصل الصبي، بل إنه أبلغ من الصبي؛ لأن الصبي حتى الآن لم يعرف ويرجى أن يعرف، فأهله يتحملون منه هذا الرداء وهذا في عقله؛ لأنهم يؤملون أنه يزول ويترقى العقل والفهم، لكن الذي- والعياذ بالله- وصل إلى الكبر حتى صار عقله بمنزلة الصبي يكون الرجاء فيه بعيدًا، ثم إن هذا الذي رد