صدقته". قالوا: فسماها الرسول صلى الله عليه وسلم صدقة، والصدقة ليست واجبة، وقبولها ليس بواجبن لن المصدق عليه إن شاء قبل وإن شاء لم يقبل، ولكن الذين قالوا بوجوب القصر قالوا: إن الرسول -عليه الصلاة والسلام- أمر بالقبول فقال: "اقبلوا صدقته" والأصل في الأمر الوجوب.
واستدل هؤلاء الذين قالوا: إنه ليس للوجوب بأن عثمان رضي الله عنه كان الصحابة يصلون خلفه ويتمون تبعًا له، ولو كان القصر عندهم واجبًا ما صلوا خلف إنسان خالف الفرض، ولناقشوه في ذلك حتى يعرفوا حجته في هذا الأمر، فما لم يناقشوه في هذا الأمر وتابعوه دل على عدم الوجوب، إذ إن الصحابة لا يمكن أن يوافقوا على خطأ، ولكنه سئل ابن مسعود ضي الله عنه عن كونه ينكر على عثمان ويصلي معه تمامًا فقال: "إن الخلاف شر" فعلم بهذا أنه يصلي وراءه إتمامًا درءًا للشر والتفرق على الخلافاء وأن المفسدة كبيرة جدًا لو تفارقوا وتخلَّفوا.
وأما الذين قالوا: إنه ليس بمؤكد -أي: سنة- ولا يكره تركه فقالو: إن الله يقول: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناحٌ أن تقصروا من الصَّلاة}[النساء: ١٠١]. فنفى الجناح فقط، ونفي الجناح لا يدل على الوجوب، كما لو قلت: لا حرج أن تفعل كذا، هل معنى ذلك أن هذا الشيء يجب عليك؟ لا، ولكن هذا الاستدلال فيه نظر، لأن نفي الوجوب في هذا الدليل لا يمنع من الوجوب في دليل آخر؛ لأن الله قال في السعي بين الصفا والمروة:{فمن حجَّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطَّوَّف بهما}[البقرة: ١٥٨]. فإن الطواف بهما فرض واجب في الحج والاعمرة على القول الراجح، والمسألة خلافية.
المهم أن القول بالوجوب إذا استعرضنا أدلته وجدنا أنه قوي جدًا إلا أن الإنسان قد يكون في نفسه حرج من الإيجاب بسبب إقرار الصحابة -رضي الله عنهم- عثمان بدون مناقشة، وإلا لكان الواجب أن يناقشوه: لماذا أتممت وعمر يقصر وأبو بكر يقصر والنبي صلى الله عليه وسلم يقصر؟ كل من قبله كانوا يقصرون، فالمسألة ما ينبغي بلا شك للإنسان المسافر أن يصلي تمامًا بل يقصر إمَّا وجوبًا وإمَّا سنة مؤكدة غاية التأكيد، وكنت أرى بالأول الوجوب لكن حصل عند تردد في آخر الأمر، وقلت: إن قولها: "أقرت" على الفريضة الأولى يعني: لم تزد، وليس المعنى أنه فرض أن تكون، إنَّما أنا أرى أنه لا ينبغي للإنسان أن يتم إلا في حالة واحدة وهي إذا ائتم بمقيم بل إذا ائتم بمن يتم -هذا التعبير السليم- فإن عليه أن يتم لقوله -عليه الصلاة ولاسلام-: "ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا"، وتقدم لنا أن الصواب إذا أدرك مع الإمام ولو أقل من ركعة فإنه يلزمه الائتمام.