وحده بعضهم بأنه: ما مال من الأرض عند منتهى ميل الأرض، أنت مثلًا إذا كنت تشاهد شخصًا وكان بعيدًا فما كان عند ميل الأرض- ومعلوم أن الأرض تميل- فإنه ميل، ولكن هذا الحد فيه صعوبة؛ لأن الناس يختلفون في قوة النظر، ولأن الأرض أيضًا قد تخلف بالنسبة للميل وهو نظير من حدَّ المد بأنه ملّ الكف مرتين هذا صعب، وكذلك من حدّ المثقال بالشعير بحبات الشعير، فإن هذا أيضًا غير منضبط؛ لأن في عهد الرسول - عليه الصلاة والسلام - لا يوجد مساحين يمسحون الأرض بحث يُحدِّون أن هذا ميل لا يزيد ولا ينقص، لكنه على سبيل التقريب.
وقوله" "أو فراسخ" جمع فرسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، فبناءً على أن الحديث ثلاثة فراسخ كم تكون بالميل؟ تسعة أميال، والشك هنا من الراوي من "شعبة" شك هل قال: ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ، وهذا الشك هل يوجب أن تلغي الحديث كله، أو نلغي ما وقع الشك؟ الثاني، فالأميال داخلة في الفراسخ؛ لأن الفراسخ أبعد منها، وعلى هذا فنقول: نقدر أنها ثلاثة فراسخ، فهذا يدل على أن الرسولصلىللهعليهوسلم إذا خرج ثلاثة فراسخ صلى ركعتين، هذا الحديث كما ترون استقر فيه الرأي على أنه خرج ثلاثة فراسخ.
ولكن ما معنى قوله: "إذا خرج" هل المراد: إذا خرج من البلد لقصد سفر يزيد على ثلاثة فراسخ، ويكون المعنى أنه لا يبدأ صلاة ركعتين إلا إذا بعد عن البلد ثلاثة فراسخ أو ثلاثة أميال، هكذا فسره من يرون أنه لا يقصر إلا في ستة عشر فرسخًا كما هو المشهور من مذهب الإمام أحمد بأنه لا يقصر إذا قصد ستة عشر فرسخًا، يعني: يومين قاصدين لسير الأحمال، ودبيب الأقدام فيؤولون هذا الحديث إلى أن معناه لا يبتدئ القصر إلا بعد أن يفارق البلد بثلاثة فراسخ تسعة أميال، ولكن هذا التأويل غير صحيح؛ لأن أنسًا يقول: "إذا خرج ثلاثة أميال"، فظاهره: أن منتهى خروجه يكون ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ، ولأن هؤلاء الذين يقولون: إن معناه: لا تبدءوا القصر إلا بعد ثلاثة فراسخ هم أنفسهم يقولون: إنه يجوز للإنسان أن يقصر الصلاة إذا فارق البنيان، وإن لم يبعد إلا شبرين، فيكون فهمهم للحديث مخالفًا لما يقولون.
فالصواب: المعنى الأول للحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى هذه المسافة قصر الصلاة، بمعنى: أنه إذا كان مُنتهى سفره ثلاثة فراسخ فإنه يقصر، ولكن هذا على سبيل الشرط، بمعنى: لأنه لو خرج أقل من ذلك فإنه لا يقصر، أو إنه بيان للواقع أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا خرج فعل كذا، وأنه ليس بشرط فلو سافر سفرًا أقل من هذا وهو يعد سفرًا فإنه يقصر؟ إلى هذا الأخير ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وقالا: إنه لا يصح تحديد المسافة للسفر، وأنه يقصر إذا