للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإنصاتًا أعلاها الإنصات {وإذا قُرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا}. ففرق الله بين الاستماع والإنصات، ومعلوم أيضًا أن هناك فرقًا بين الاستماع والسكوت، قد يسكت الإنسان ولا يستمع للكلام، لكن الذي يقول "أنصت" يعني: أصغ إلى الإمام، وتلقَّ ما يقول ليست له جمعة.

قوله: "ليست له جمعة" تقدم لنا في النفي أن النفي يحمل أولًا على نفي الوجود، فإن لم يمكن فعلى نفي الصحة، فإن لم يمكن فعلى نفي الكمال، هنا الآن نسلط هذه القاعدة على هذا النفي، "ليست له جمعة" أي: لا يوجد له جمعة هل يصح؟ لا، لماذا؟ لأنه قد حضر وسيصلي، لا يصح له الجمعة؟ الجواب: فيه احتمال لكنه تصح خطبته، وأظن المسألة إجماعية في أنها تصح، إذن لا بد أن تحمل على شيء آخر وهو: لا تكمل له جمعة فلا ينال ثوابها؛ لأن الخلل هنا ليس في نفس الصلاة حتى نقول: إنه نفي للصحة هذا شيء خارج الصلاة لكنه نفي للكمال، لأن صلاة الجمعة- كما تعلمون- تشمل خطبة قبلها، وتشمل أيضًا نفس الصلاة التي تكون الخطبة من مقدماتها {يا أيها الذين أمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} [الجمعة: ٩]. فليس النهي عائدًا إلى ذات العبادة، وعليه فنقول: إن النفي هنا نفي للكمال.

قال المؤلف: "رواه أحمد بإسناد لا بأس به"، كلمة "لا بأس به" يعني: قليلة ما تمر علينا، لأننا عرفنا الصحيح، والحسن، والضعيف، لكن هذا ما قال: لا حسن، ولا ضعيف، ولا صحيح، قال: بإسناد لا بأس به، فهل مثل هذا التعبير أقرب إلى التصحيح، أو أنه أقرب إلى التضعيف؟ هو للتضعيف أقرب، لكنه يقول: لا بأس به، لأنه معضود بالحديث الذي يعده، يقول:

- وهو يُفسِّر حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين مرفوعًا: "إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب، فقد لغوت".

إذن معنى "لغوت": بطلت جمعتك، أي: بطل ثوابها؛ لأن الشيء الملغي هو الذي لا يُعتد به ولا يعتبر، ولكن المراد باللغو هنا: أنه لا ثواب له، لا يثاب ثواب الجمعة، وثواب الجمعة أفضل من غيرها بكثير، لكن يحرم هذا الثواب بسبب هذا العمل؛ لأنه قال: أنصت.

يُستفاد من هذا الحديث: التحذير من الكلام والإمام يخطب يوم الجمعة، من أين يؤخذ؟ من تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم المتكلم بالحمار الذي يحمل أسفارًا، ولا ريب أن هذا التشبيه يقصد به التقبيح والتنفير، وبالمناسبة قال بعض العلماء: إن الرجل إذا عاد في هبته فعوده في الهبة جائز؛ لأن النبي- عليه الصلاة والسلام- "العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه"، قالوا: والكلب

<<  <  ج: ص:  >  >>