ويخرصونها؟ يعني: إن لم تختاروا ترك الثلث فدعوا الربع، نقول: لدينا قاعدة وهي أن كل ما جعل فيه الخيار لشخص عن طريق الولاية أو التصرف لغيره فالواجب عليه اتباع الأصلح، بخلاف ما جعل فيه الخيار مما يتصرف لنفسه فهذا يتبع ما يراه أسهل على ما يرى، أما ما جعل له الخيار فيه عن طريق الولاية أو التصرف للغير فالواجب عليه أن يتبع الأصلح.
"إن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع" يعني: إن رأيتم المصلحة في عدم ترك الثلث فاتركوا الربع، فما هي المصلحة؟ أما على الاحتمال الأول الذي يقول:"دعوا الثلث" يعني: لا يجب عليه بذله، فيقولون: إن السعاة ينظرون إلى هذا الرجل، إذا كان هذا الرجل مضيافا كريما يبذل كثيرًا من ماله للضيوف فهنا يترك له الثلث، وإن كان بالعكس فيترك له الربع، كذلك لو كان النخل قد أصيب بجوائح، أو كان هناك أتعاب أكثر في هذه السنة على سقيه ونحو ذلك فيترك له الثلث وإلا ترك له الربع.
والاحتمال الثاني، نقول: إذا كان هذا الرجل حوله أناس كثيرون فقراء من أهل الزكاة فإننا نترك له الثلث، وإلا تركنا له الربع، فأيا كان، فإن هذه مرجعة إلى ما تقتضيه المصلحة.
يستفاد من هذا الحديث: ثبوت الخرص في الثمار لقوله: "إذا خرصتم فدعوا"، ووجه ثبوته: أنه لما علق على الخرص أحكامًا كان ذلك دليلًا على نفوذها؛ لأن غير النافذ لا يترتب عليه أحكام لأنه يلغى من الأصل، فلما رتب عليه الأحكام علم أنه نافذ وصحيح.
ومن فوائد الحديث: تيسير الشرع على العباد؛ لأن الخرص أسهل من التقدير بالكيل، إذ أنا لو اعتبرنا التقدير بالكيل لزم من ذلك أن يجزه صاحب المال- يعني: صاحب الثمرة-، ثم ييبس، ثم يكيل، ثم يعرف الواجب، وهذا فيه صعوبة ومشقة، فالخرص لا شك أنه من التيسير.
ويستفاد منه: أنه إذا تعذر اليقين أو تعسر رجعنا إلى غلبة الظن، وهذا له نظائر في الشرع منها ما سبق في حديث ابن مسعود في الشك في الصلاة يقول:"فليتحر الصواب ثم يبني عليه" هذا أصل يشهد لهذا الحديث.
والأمر بالخرص كاستعمال القرعة عند الحاجة إليها، فإن القرعة بلا شك فيها تعيين المستحق على سبيل التحري، فإنه لو اجتمع شخصان فأكثر في حق من الحقوق واستويا ولم يمكن التمييز بينهما فإننا نجري القرعة، وقد ذكرت القرعة في القرآن مرتين في قصة يونس:{فساهم فكان من المدحضين فألتقمه الحوت وهو مليم}[الصافات: ١٤١، ١٤٢]. وفى قصة مريم:{وما كنت لديهم إذ يختصمون}[آل عمران: ٤٤].