"أفطر الحاجم والمحجوم" كادا يفطران ولم يفطرا؛ لأن المحجوم لو تصبَّر مع الضعف حتى غربت الشمس وأكل وشرب صحَّ صومه، والحاجم لو تأنى رويدًا رويدًا صح صومه.
وقلت: وإحالة الحكم على السبب الظاهر، ما هو السبب الظاهر في الحديث الذي أفطر به الحاجم والمحجوم؟ الحجامة هو يقولون: لا إن الرجلين كانا يغتابان الناس، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"أفطر الحاجم والمحجوم"، وهذا التأويل هو في الحقيقة تحريف. أولًا: لأنهم يقولون: إن الغيبة لا تفطر، وهذا من الغرائب، يقولون: إن الغيبة لا تفطر، ولما قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"أفطر الحاجم والمحجوم" قالوا: كانا يغتابان الناس، وأنتم تقولون: الغيبة لا تفطر، يعني: لو اغتابا الناس بدون حجامة ما أفطرا، وإن اغتابوا الناس وحجموا أفطروا، هذا لا يستقيم.
الشيء الثاني: أنه من الجناية على النصَّ أن يلغى الوصف الذي علّق عليه الحكم ثم نذهب نلتمس وصفًا آخر نعلَّق به الحكم، فإن هذا جناية على النصوص، وما مثل هؤلاء إلا مثل من قالوا في المرأة المخزومية التي كانت تستعير المتاع فتجحده- فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها- إن هذه المرأة ما أمر الرسول بقطع يدها لأنها استعارت فجحدت، ولكن لأنها كانت تسرق، وما مثل هؤلاء أيضًا إلا كمثل قول من قال: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة"، أو "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة من تركها فقد كفر" قالوا: إن المراد منه: جحدها إذا كان المراد من جحدها، فالذي يجحد فلو صلَّى كل وقت في وقته ومع الجماعة فهو كافر، فكيف نلغي الوصف الذي علَّق عليه الحكم، ثم نجلب له وصفًا آخر لم يذكره الشرع؟ فالمهم أن مثل هذه الأمور من أهل العلم- عفا الله عنا وعنهم- يحمل عليها أنهم يعتقدون قبل أن يستدلوا فيكون عند الإنسان حكم معين تقليدًا لمذهب من المذاهب أو اختيارًا من عند نفسه ثم تأتي النصوص بخلاف ذلك المذهب أو ذلك الفهم، فيحاول أن يصرف النصوص إليها ولو بضرب من التعسف، والحقيقة أن هذه ليست طريقًا سليمًا إذ إن الإذعان والتسليم المطلق هو الذي يجعل النصوص متبوعة له لا تابعة، بمعنى أنه إذا دلَّت النصوص على شيء يأخذ به وهو سيحاسب على ما دلَّت عليه النصوص والحكم بين الناس إلى الله ورسوله، فإذا دلَّ كلام الله ورسوله على شيء من الأشياء فالواجب علينا أن نأخذ به مهما كان، والخطر علينا إذا خالفنا هذا الظاهر ليس إذا أخذنا به.
إذن فهذا الحديث يدل على أن الحاجم والمحجوم يفطران، ويبقى النظر في الجواب عن حديث ابن عباس السابق؟ الجواب عليه: أن الإمام أحمد رحمه الله ضعَّف رواية: "احتجم وهو صائم"، وقال: إن ذلك لا يصح وأنه انفرد به أحد الرواة عن ابن عباس، وأن غيره خالفه فيها، وإذا كان الأمر كذلك فإن المخالفة- مخالفة الثقات في نقل الحديث- تجعله شاذًا وإن كان