أما حديث أنس فقال:"أول ما كرهت الحجامة" ما إعراب "أول"؟ مبتدأ، والخبر "ما"، وما دخلت عليه في تأويل مصدر من الجملة، "أول ما كرهت"، الكراهة في لسان الشارع غير الكراهة في عرف الفقهاء، الكراهة في لسان الشارع للشيء المحرم الذي قد يكون شركًا أكبر، اقرأ قول الله تعالى:{* وقضى ربك ألا تعبدوا إلآ إياه وبالوالدين إحسانًا ... } إلى قوله: {كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروهًا}[الإسراء: ٣٨]. واقرأ ما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله كره لكم وأد البنات"، وهو من كبائر الذنوب، فالكراهة في لسان الشارع غير الكراهة في عرف الفقهاء، عرف الفقهاء الكراهة منزلة بين التحريم والإباحة، فيعرفون المكروه بأنه:"ما نهي عنه لا على سبيل الإلزام بالترك"، ويقولون في حكمه: يثاب تاركه امتثالًا ولا يعاقب فاعله، فهنا الكراهة بلسان الشارع.
وقوله:"كرهت الحجامة أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه احتجم وهو صائم"، جعفر بن أبي طالب كان أخًا لعلي بن أبي طالب، ولكن عليًا رضي الله عنه يكبره في المرتبة وسبق الإسلام وأنه أحد الخلفاء الراشدين، "احتجم وهو صائم" فمرَّ به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أفطر هذان" المشار إليهما الحاجم والمحجوم، "ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم وكان أنس يحتجم وهو صائم".
نقول: هذا الحديث المشار إليه الحاجم والمحجوم فهل غيرهما مثلهما؟ الجواب: نعم، يعني: غير هذه الشخصين مثلهما في الحكم؛ لأنه سبق لنا قاعدة مهمة وهي أن ما ثبت في حكم الواحد من هذه الأمة فهو له ولغيره ممن ساواه في المعنى الذي علق عليه الحكم، مثال ذلك: قال النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى رجلًا في السفر قد ظلَّل عليه، والناس زحام حوله قال:"ليس من البر الصيام في سفره"، هل نأخذ هذا على عمومه؟ لا، بل نقول: الرجل الذي يبلغ به الصيام كما بلع بهذا الرجل ليس الصوم في السفر بالنسبة إليه من البر.
إذن الحجامة لا نعقل لها معنى يختص بجعفر بن أبي طالب وحاجمه، بل نجد أن معناه شامل عام، فكل من حجم أو احتجم فإنه داخل في هذا الحكم، ولكن هل يدخل عليه بالنص، أو يدخل عليه بالقياس؟ كلمة "هذان" كما مرَّ علينا اسم الإشارة يعيَّن المشار إليه، ولهذا كان اسم الإشارة أحد المعارف فهو يعيَّن المشار إليه كما لو قلت: أفطر جعفر وفلان، أعني: الحاجم له، فهي تعيَّن المشار إليه، فهل نقول: إن الحكم في غيرهما ثابت للقياس عليهما؟ الجواب: هذا هو الظاهر أنه بالقياس. وقد يقول قائل: لا، بل إن الرسول صلى الله عليه والسلام إذا نص على شخص بعينه فهذا النص المعين لهذا الشخص كالتمثيل لقاعدة عامة، فعليه نأخذ بعموم