ثالثًا: أن ما ترتب على النسيان فلا إثم فيه؛ لقوله:"فليتم صومه"، ويتفرع على هذه القاعدة: أن من نسي آية من القرآن فلا إثم عليه، وما ورد في التشديد فعلى من نسي آية من القرآن إن صحَّ فهو محمول على من نسيه بسبب إعراضه وعدم مبالاته، وأما من نسيه أو شيئًا منه لأمر لا بد له منه في معاشه ومعاده فإنه لا إثم عليه، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نسي بعض آيات القرآن وذكر فصلى ذات ليلة وأسقط آية من القرآن فلما انصرف ذكَّره بها أبي بن كعب فقال:"هلا كنت ذكرتنيها"، ومر ذات يوم ورجل في بيته يصلي يتهجد فسمعه يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"رحم الله فلانًا لقد ذكرني آية كنت أنسيتها"، وعلى هذا فلا لوم على الإنسان فيما نسي من كتاب الله بشرط ألا يكون ذلك على سبيل الإعراض وعدم المبالاة، إذن من أفطر ناسيًا لوقت أو بالحكم فلا قضاء عليه ولا كفارة. ما تقولون في رجل اشترى عنبًا لأهله في رمضان، وخرج بالعنب في المنديل ونسي أنه صائم، فجعل يأكل هذا العنب حبة حبة، فلما وصل إلى البيت وإذا لم يبق إلا حبة واحدة في العنقود، فقال له أهله: كيف تأكل واليوم صيام؟ قال: ما دريت، لكن يأكل هذه الحبة وتعمد، وقال: إن كنت مفطرًا فهذه من باب أولى وإن كنت لم أفطر فهذه لا تفطر، فما الحكم؟ هو عالم وعليه فلا صوم له.
ومن فوائد الحديث: بيان رحمة الله عز وجل بترك المؤاخذة على النسيان فإن هذا من رحمة الله.
ومن الفوائد أيضًا: أن فعل المحظور مع النسيان لا يترتب عليه شيء؛ وذلك لأن مفسدة المحظور بفعله، فإذا انتفت المفسدة بالنسيان لم يبق هناك أثر لهذا المحظور، بخلاف المأمور فإن ترك المأمور ناسيًا لا يسقطه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيمن نسي في الصلاة:"من نام عن صلاة أو نسيها؛ فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك"؛ لأن فعل المأمور لا تزول مفسدة تركه بالنسيان؛ إذ يمكن تداركه وإزالة هذه المفسدة بقضائه، ولهذا القاعدة المقررة عند عامة الفقهاء: أن ترك المأمور لا يعذر فيه بالنسيان والجهل، بل لا بد من قضائه، وإن كان الإثم يسقط، وأما فعل المحظور فيعذر فيه بالجهل والنسيان إلا أنه يرد علينا أن هناك أشياء من المأمورات أسقطها الشارع بالجهل مثاله المرأة التي قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أستحاض فلا أطهر، ومعنى ذلك: أنها لا تصلي، والمستحاضة لا تجب عليها الصلاة، ولم يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بقضائها مع أنها تركت المأمور، لكنها تركته جهلًا.