ثم قال جابر رضي الله عنه:"حتى إذا أتينا البيت استلم الركن" يعني: الكعبة، "استلم الركن" أي: مسحه بيده، أي اليدين؟ اليمنى؛ لأن اليد اليمنى تقدم للإكرام والتعظيم، واليد اليسر، في الإهانة، فمسحه بيده اليمنى، قال:"فرمل ثلاثًا ومشى أربعً"، قال العلماء: الرّمل هو سرعة المشي مع مقاربة الخطا، "ثلاثا" أي: ثلاثة أشواط، "ومشى أربعًا" يعني: أربعة أشواط، وفيه دليل على أن الطواف سبعة أشواط، وأن طواف القدوم يرمل فيه الإنسان الأشواط الثلاثة الأولى، ويمشي في الأشواط الأربعة الباقية، وفيه دليل أيضًا على أن الرّمل من الحجر إلى الحجر وليس من الحجر إلى الركن اليماني كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء.
فإن قلت: ما الحكمة من الرّمل في الطواف في الأشواط الثلاثة الأولى دون الأربعة الباقية؟
فالجواب: أن الحكمة تذكير المؤمنين بأصل هذا الرّمل؛ لأن أصله أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قاضي أهل مكة في غزوة الحديبية على أن يرجع من العام القادم معتمرًا، أهل مكة أعداء للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والعدو يحب الشماتة بعدوه، فقال بعضهم لبعض: دعونا نجلس هنا ننظر إلى هؤلاء القوم الذين وهنتهم حمى يثرب كيف يطوفون؛ لأن عندهم أن هؤلاء قوم أصابهم المرض وأنهك قواهم، يريدون بذلك الشماتة، وجلسوا في شمال الكعبة وقالوا: ننظر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا ليظهروا الجلد والقوة والنشاط ليغيظوا الكفار، وإغاظة الكفار أمر مقصود لله عز وجل كما قال الله تعالى:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}[الفتح: ٢٩].
وقال تعالى:{وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ}[التوبة: ١٢٠]. أراد النبي صلى الله عليه وسلم من قومه أن يغيظوا الكفار، لكنه أمرهم أن يرملوا من الحجر إلى الركن اليماني دون ما بين الركنين؛ لأنهم بين الركنين يختفون عن المشركين، وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرفق بأصحابه، ولهذا جعل الرَّمل في الأشواط الأولى؛ لأن الثلاثة أقل من الأربعة، فاعتبر الأقل في جانب الصعوبة، الرّمل أصعب من المشي العادي، فجعل له الأقل وهي ثلاثة من سبعة، ثم إن اختيار الثلاثة دون الأربعة فيه القطع على وتر، والله -سبحانه وتعالى- إذا تأملنا مشروعاته وجدنا غالبها مقطوعًا على وتر، ففيه فائدتان؛ يعني: في كون الرّمل خاصًّا بالثلاثة الأولى فقط، أولاً: أن اعتبار الأخذ بالأقل في باب المشقة، وثانيًا: القطع على وتر، لكن في حجة الوداع رمل النبي صلى الله عليه وسلم في الأشواط الثلاثة كلها من الحجر إلى الحجر؛ لأن العلة التي من أجلها شرع الحكم -وهو إغاظة الكفار الذي يشاهدوه- انقطعت، فصار الرّمل من الحجر إلى الحجر؛ لأنه صار الآن عبادة ولم يكن القصد منه الإغاظة؛ لأن الإغاظة