الأولى المحافظة على ما جاءت به السنة فيما مر علينا، أيضًا أنه يجوز للإنسان المشتغل بما ينفع عامة الناس أن يدع المبيت بمنًى؛ لأنه قيل: إنه سنة، والراجع أنه واجب، ما دليله؟
٧٣٦ - وعن عاصم بن عديٍّ رضي الله عنه:"أنًّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رخَّص لرعاة الإبل في البيتوتة عن منى، يرمون يوم النَّحر، ثمَّ يرمون الغد ومن بعد الغد ليومين، ثمَّ يرمون يوم النَّفر.". رواه الخمسة، وصحَّحه التِّرمذيُّ، وابن حبَّان.
قال:"رخص لرعاة الإبل" الرخصة في اللغة بمعنى: السهولة، وعند الأصوليين:"ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح"، ولو قالوا: ما ثبت على خلاف الأصل لمعارض راجح لكان أولى وأوضح وهو كذلك فهذا مرادهم، ومنه رخَّص في المسح على الخفين؛ لأنه على خلاف الأصل، والأصل هو الغسل، ومنه رخص في العرايا أن تباع بخرصها تمرًا، رخص بمعنى: سهل وأجاز من الأصل، والأصل التحريم في العرايا، وما هي العرايا؟ أن تبيع الرطب بالتمر؛ لأنه يشترط التماثل، والتماثل بين الرُّطب والتمر مستحيل.
المهم: أن الرخصة هي ما ثبت على خلاف الأصل لمعارض راجح، وهو السهولة، فهنا رخّص لهم أن يدعوا المبيت وترك المبيت بمنًى على خلاف الأصل؛ لأن الأصل هو المبيت.
وقوله:"لرعاة الإبل" جمع راع، وهم الذين يرعونها في أماكن النبات، والمراد بالإبل هنا: إبل الحجاج؛ لأن الحجاج في منى نازلون لا يحتاجون إلى إبلهم، والإبل تحتاج إلى الأكل فيذهب بها الرُّعاة إلى مواضع القطر والنبات لترعى.
"في البيتوتة عن منًى"، كان مقتضى التركيب أن يقول: في البيتوتة في منًى، لكن "عن منى" يحتاج إلى تأويل إما بـ "عن" وإما بالبيتوتة كما مر علينا - في هذا وأمثاله - أن علماء النحو اختلفوا هل التجوُّز في الحرف أو في الفعل الذي قبله يعني: في العامل الذي قبله، وقلنا: إن مذهب البصريين أن التجوز في العامل الذي قبله والكوفيين في الحرف، فمثلًا يقولون:"عن" هنا بمعنى: الباء؛ يعني: البيتوتة بمنى، أما البصريون فيقولون: إن البيتوتة بمعنى: النزوح؛ يعني: النزوح عن منى والبعد عنها، ومعلوم أنهم إذا نزحوا عن منى فلن يبيتوا فيها.
على كل حال: رخص لهم في أن يدعوا منى لا يبيتون بها ويبيتون مع إبلهم، لكن الرمي قال:"يرمون يوم النحر"، وهذا لابد منه؛ لأن الحجاج على رواحلهم يوم النّحر فلم يسلموها للرعاة، وليست الرعاة في حاجة إلى أن يؤجلوا رمي يوم النحر.
قال:"يرمون يوم النحر ثم يرمون الغد ومن بعد الغد ليومين"؛ يعني: يجمعون يوم الغد