"أتراني ماكستك لآخذ جملك؟ "، الاستفهام هنا للنفي أو للتقرير؟ هل الرسول صلى الله عليه وسلم ينفي أنه يظن أو يثبت أنه يظن؟ يثبت أنه يظن، وإن كان المتبادر للإنسان أن الرسول ينفي، لكن الرسول ينفي المماكسة، وليس ينفي ظن هذا أن الرسول ماكسه ليأخذ الجمل، فهنا شيئان ظن الرجل وهذا ظن جابر، وهذا ثابت أو غير ثابت؟ أما المماكسة لأخذ الجمل هذا غير ثابت، إذن الاستفهام ليس منصبًّا على المماكسة لأخذ الجمل، إنما الاستفهام بالنسبة لظن جابر، يعني: هل تظن أنني ماكستك لأخذ جملك؟ لا، وإن كنت أنت تظن هذا الشيء.
وقوله:"تراني" يعني: تظنني، ومفعولها الأول: الياء، ومفعولها الثاني: جملة "ماكستك"، والمماكسة: المناقصة في الثمن أو الأجرة أو ما أشبه ذلك، كأن يقول لك: أبيعه عليك بمائة فتقول بل بثمانين أو بسبعين، وهكذا حتى يبيع عليك.
وقوله:"لآخذ جملك" كيف قال: لآخذ جملك وقد باعه للرسول صلى الله عليه وسلم؟ نقول: باعتبار ما كان؛ ولأن المماكسة كانت قبل عقد البيع، فهو إذ ذاك هو المالك له.
"خذ جملك ودراهمك"، خذ جملك باعتبار ما كان، ودراهمك باعتبار الحاضر أو باعتبار ما كان أيضًا؟ الآن الدراهم موجودة لكن العقد سابق، فهل الإنسان يملك الثمن إذا كان غير معين بالتعيين، أو يملكه بالعقد، هذا محل خلاف بين الفقهاء سنذكره -إن شاء الله- في الفوائد.
قال:"فهو لك"، الضمير يعود على الجمل.
قوله:"هذا السياق لمسلم" أفادنا المؤلف؛ لأن سياقات البخاري لهذا الحديث تختلف عن سياق مسلم رحمه الله، هذا الحديث -كما ترون- أدخله المؤلف في كتاب البيع؛ لأن فيه عقد بيع وهو شراء النبي صلى الله عليه وسلم الجمل من جابر، وفيه أيضًا شرط في البيع، وهو اشتراط جابر حمل الجمل إياه حتى يصل إلى المدينة، فلهذا وضع المؤلف هذا الحديث في كتاب البيع.
والحديث فيه فوائد كثيرة جدًّا تتعلق بالبيوع وغيرها فمنها: جواز الركوب على الجمل الضعيف التعبان لقوله: "كان على جمل له قد أعيا"، لكن قواعد الشريعة تقتضي شرطًا في ذلك وهو ألا يشق عليه، فإن كان يشق عليه فإنه لا يجوز أن يكلفه ما لا يطيق، أما إذا كان يشق عليه مشقة محتملة فإن هذا لا بأس به، وهل يجوز لمن كان على مثل هذا الجمل أن يضربه حتى يلحق بالركب؟ الجواب: لا؛ لأن هذا إيلام بلا فائدة، ولهذا جابر ما كان يضربه حتى يلحق بالقوم، بل أراد أن يسيبه.