أيها المُخاطب الذي تعقل الخطاب، «أد الأمانة»، يعني ما ائتُمنت عليه، «إلى من ائتمنك» فأدها كاملة دون تعد ولا تفريط ولا نقص، «ولا تخن من خانك»، الخيانة هي الغدر في موضع الائتمان، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تخن من خانك»، وإنما قال ذلك؛ لأن من خان الإنسان قد تأمره نفسه أن يخونه كما خانه أولاً فيُجازى بمثله.
هذا الحديث يستفاد منه فوائد منها: وجوب أداء الأمانة ومن بينها العارية، وهذا وجه استشهاد المؤلف بهذا الحديث.
ومن فوائد الحدث أيضًا: أن الإنسان لا يرد الأمانة إلا لمن ائتمنه، فلا يردها إلى شخص آخر إلا أن تقوم بينه أو قرينة فليفعل، بيّنة مثل أن يأتي شخص ببينة بأن أمره صاحب الأمانة بان يقبضها، فهنا يتعين أن ترد إليه بالبينة، أو قرينة مثل أن يردها على من يحفظ ماله عادة كرجل استعار من شخص إناء ثم عاد فقرع بينه فسأل عنه، قالوا: إنه في السوق فأعطى الإناء أهل البيت فهل يبرأ بذلك؟ نعم يبرأ؛ لأن هذا هو ما جرت به العادة، ولا يلزمه أن يذهب ويتطلب هذا الرجل.
من فوائد الحديث: تحريم الخيانة مطلقًا لقوله: «لا تخن من خانك»، أما تحريم الخيانة لمن خانك فهو منطوق الحديث، وأما تحريم الخيانة مما لم يخن؛ فلأن هذا من باب أولى، وما كان من باب أولى فقد اختلف العلماء هل هو داخل في المنطوق دخولًا لفظيًا، ويكون ذكر الأدنى تنبيهًا على ما فوقه أو هو داخل بالقياس، فيكون اللفظ لا يتناوله لكن تناوله من حيث المعنى؛ لأن القياس الجلي الذي يكون فيه المقيس أولى بالحكم من المقيس عليه لا شك أنه داخل في ضمن اللفظ من حيث المعنى.
على كل حال: إذا كان الحديث يدل على تحريم الخيانة لمن خانك فإنه يدل على تحريم الخيانة، من العلماء من أخذ بظاهر الآية وأعلّ الحديث وقال: إن الحديث ضعيف ولم يأخذ به، ولكن هذا ليس بسديد، والجمع بينهما أن نقول: إن العدوان ليس فيه ائتمان المعتدي الذي اعتدى عليك عدوانًا ظاهرًا لكن الذي ائتمنك لا يجوز أن تعتدي عليه في مقابل أنه خانك، لأن مقتضى الأمانة دفع الخيانة، وأنت أمين فليس هذا من باب {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}[البقرة ١٩٤].
فإن قال قائل: ما الجمع بين هذا الحديث وبين حديث هند بنت عتبة حين شكت زوجها أبا سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: إنه لا يعطيني ما يكفيني وولدي، فقال:«خُذي ما يكفيك وولدك بالمعروف».