للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تقبض، لكن إن كان قبل القبض فهي من باب إخلاف الوعد، وإن كان بعده فهي من باب الرجوع فيما ملكه الموهوب له، لأنه يملكها بالقبض، هذا هو القول الراجح في هذه المسألة، وقال بعض العلماء: إن الرجوع في الهبة مباح، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) شبه الراجع بالكلب، والكلب عمله لا يتعلق به تكليف، فرجوعه في قيئه لا يأثم به، وإذا كان لا يأثم كان المشبه -وهو الراجع في الهبة- لا يأثم برجوعه، لأن التشبيه إلحاق المشبه بالمشبه به، ولكن هذا لا شك أنه من تحريف النص وتعطيل معناه، فهو رجوع بالنص إلى غير ما يريده الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ففيه تحريف لمعنى النص، وتعطيل له؛ لأنا إذا قلنا بجواز الرجوع في الهبة، وقلنا: إن هذا الحديث يدل على الجواز، عطلنا الحديث عن معناه المراد به؛ إذ معناه التحذير من هذا العمل، والآن جعلنا معناه الإباحة لهذا العمل، فعطلنا النص، ثم هو أيضا تحريف للنص، إذ إن النص لا يدل على ذلك، بل النص يدل على التحذير من هذا غاية التحذير، لو أنك قلت لرجل من الناس: يا كلب، قال: لماذا؟ قلت: لأنك رجعت في الهبة، قال: إذن لا أوصف بأني كلب، لأن الرجوع في الهبة جائزة فتقول: الذي وصفك بهذا الرسول (صلى الله عليه وسلم)، هل يرضى بهذا أو يفهم أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) وصفه بذلك من أجل أن يقول له: ارجع في هبتك كما أن الكلب يرجع؟ هذا شيء مستحيل، ولم يشبه الآدمي الذي فضله الله على كثير ممن خلق، لم يشبه بالحيوان إلا في مقام الذم، شبّه الذين حُمَلوا التوراة بالحمار يحمل أسفارا ذمًا، وشبه الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها بالكلب {إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} [الأعراف: ١٧٦]. ذماً لا مدحاً، وشبه الذي يتكلم والإمام يخطب يوم الجمعة بالحمار يحمل أسفارا مدحا أو ذمًا؟ ذمًا، إذن لم يشبه الآدمي الذي فضله الله على كثير ممن خلق بالحيوان إلا في مقام الذم، ولهذا نهى الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن يبرك الإنسان في سجوده كبروك البعير، ونهى أن يبسط الساجد ذراعيه افتراش السبع، إذن لا يمكن أن نقول: إن هذا الحديث يدل على جواز الرجوع في الهبة. ثم يبطل هذا القول غاية الإبطال قول النبي (صلى الله عليه وسلم): «ليس لنا مثل السوء»، وهو صريح في أن الرجوع في الهبة مثل سوء تبرأ منه الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ولو ذهب ذاهب إلى أن الرجوع في الهبة بعد القبض من الكبائر لم يبعد، لماذا؟ لتبرأ النبي (صلى الله عليه وسلم) من ذلك: «ليس لنا مثل السوء».

ومن فوائد الحديث: أنه لا فرق بين كون الراجع غنيًا أو فقيرا، فلو افتقر الواهب ثم أراد أن يرجع على الموهوب له، قلنا: لا يجوز، ولا فرق بين أن يرجع على الموهوب له بصفة صريحة أو بحيلة، مثال الصفة الصريحة: أن يذهب إليه ويقول: أعطني ما وهبتك، والحيلة: أن يشتريه بأقل من ثمنه، فإذا كان الموهوب يساوي مائة، واشتراه بثمانين، فقال رجع بالخمس

<<  <  ج: ص:  >  >>