للرسول (صلى الله عليه وسلم) غير وارد القسمة العقلية تقتضي ثلاثة احتمالات: نسي، قصرت، الثالث: تعمد السلام قبل التمام ولكنه غير وارد، ولهذا لم يورده لو أنه أورده لكان فيه إساءة أدب عظيمة، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): «لم أنس ولم تُقصر»، أحد الاحتمالين غير صحيح وهو خبر، وهل في أخبار النبي (صلى الله عليه وسلم) ما ليس بصحيح؟ لا، ولكن بناء على ظنه، وهذا نأخذ منه فائدة كبيرة وهو أن الذي يخير على حسب ظنه فيقع الأمر على خلاف ظنه لا يُعد كاذبًا، وإن كان حالفا لم يحنث سواء في المستقبل أو في الماضي، لما قال:«لم أنس ولم تقصر»، هنا أمران منفيان: أمر محتمل وأمر غير محتمل، لما جزم به الرسول (صلى الله عليه وسلم) ما هو غير المحتمل؟ القصر لما قال: لم تُقصر تعين الثاني وهو النسيان ولهذا قال: «بلى قد نسيته»، فتعارض عند النبي (صلى الله عليه وسلم) ما في نفسه وما في نفس ذي اليدين، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) يعتقد أن الصلاة تامة وذو اليدين يقول: إنها غير تامة، فاحتاج إلى حكم بينهما، فرجع إلى الناس قال:«أحق ما يقول ذو اليدين؟ » قالوا: «نعم»، فتقدم فصلى ما ترك. أقول: إن من رأى أدب الصحابة وجدهم على أكمل ما يكون من الأدب مع الرسول (صلى الله عليه وسلم) ولهذا قال هنا: يا رسول الله، إن لم تكن لك بها حاجة فزوجنيها».
ومن فوائد الحديث: أن النيي (صلى الله عليه وسلم) له أن يتزوج بلا ولي؛ لأن المرأة لما قالت:«قد وهبت لك نفسي»، لم يقل: أين وليك يزوجني وهو كذلك له أن يتزوج بلا مهر ولا ولي، وقد خصه الله تعالى بخصائص كثيرة في باب النكاح؛ لأن هذا فيه مصلحة عظيمة، كل امرأة تتصل بالرسول (صلى الله عليه وسلم) سوف تحفظ لنا سننا كثيرة وعلمًا كثيرًا في مسائله الداخلية، ولهذا أبيح له أن يتزوج ما يشاء حتى نزل {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ}[الأحزاب: ٥٢].
ومن فوائده أيضًا: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) له أن يزوج دون أن يرجع إلى الولي لما قال الرجل: «زوجنيها» لم يقل: لست بولي لها، ولا قال: أين وليها، وهو كذلك لقوله تعالى {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ}[الأحزاب: ٦]. وهو بهذه المرأة أولى من وليها.
ومن فوائد الحديث: جواز المهر قليلاً كان أو كثيرا لقوله: «شيء»، وشيء نكرة في سياق الاستفهام فتفيد العموم، وهل يشمل كل شيء وإن كان غير مُتَمَول؟ عند الظاهرية نعم، حَتّى لو قال: زوجتكها على قشر بيضة؛ لأنه شيء، حتى لو قال: زوجتكها على حبة شعير، لأنه شيء، ولكن هذا القول ضعيف جدًا، لأن ما لا يتمول ليس بشيء، والدليل على ضعف هذا القول قول الله تعالى:{أن تبتغوا بأموالكم}[النساء: ٢٤] فلابد أن يكون المهر متمولاً، ثم هناك دليل آخر وهو قوله تعالى:{وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}[البقرة: ٢٣٧]. وحبة الشعير ما تتنصف، المهم: أن هذا من عيب المستدل أن يأخذ بدليل واحد ويترك بقية الأدلة، ولهذا يصعب كثيرا على الإنسان أن يخول لنفسه باب الاجتهاد دون أن يكون عنده سعة علم، يوجد بعض الناس