وحفظناها ورجم النبي صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده وهذا متفق عليه ولا إشكال فيه، فالذي قال:{إنَّا نحن نزَّلنا الذِّكر وإنَّا له لحفظون} هو الذي ينسخ ما يشاء {يمحوا الله ما يشاء ويثبت}(الرعد: ٣٩). وحينئذٍ لا إشكال في نسخ اللفظ لن الخبر الذي معنا فيه أنها قالت:"توفي وهي فيما يقرأ من القرآن".
وأما نسخ اللفظ فمعهود، والجواب عند الجمهور كما قلنا هو: ان النسخ كان متأخرًا ولم يعلم به كثير من الناس، فكانوا يتلون الآية على أنها محكمة باقية ثم تبيَّن بعد ذلك أنها منسوخة.
في هذا الحديث فوائد منها: أولاً: إثبات نزول القرآن والنزول لا يون إلا من اعلى والقرآن نزل من عند الله فيدل ذلك على علو الله - سبحانه وتعالى - علو مكان ومكانة، ولهذا نقول: أن أقسام علو الله اثنان علو ذات وعلو صفة، أما علو الصفة فقد اتفق المسلمون الذين يستقبلون قبلتنا على ثبوته، وأما علو المكان فقد خالف فيه أهل البدع من الحلولية والمعطلة، فمنهم من قال: إن الله - سبحانه وتعالى - بذاته في كل مكان وليس بعال على الخلق، ومنهم من قال: إن الله لا يوصف بالعلو، بل قالوا: يجب أن تعتقد أنه - سبحانه - لا فوق ولا تحت ولا يمين ولا يسار ولا متصل ولا منفصل، ولا مباين ولا مداخل، فهؤلاء معطلون والآخرون ممثلون؛ لأنهم جعلوا الله مثل الخلق في كل مكان، أما أهل السنة والجماعة فيقولون:"إن الله فوق عرشه عال على كل شيء بائن من خلقه" ويقولون: إن دليلنا على ذلك الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة، ويقولون: إنه حتى العجائز إذا دعون الله يرفعن أيديهن إلى السماء ولا نزاع في ذلك ولا يخالف في هذا إلا مهوِّس غير عاقل، أما علوُّ المكانة وهو علوُّ الصفة فهذا متفق عليه.
ومن فوائد بنفسها حتى نقول إنه كقوله تعالى:{وأنزلنا من السَّماء ماء}(المؤمنون: ١٨). او كقوله تعالى:{وأنزل لم من الأنعم ثمنية أزوج}(الزمر: ٦). أو كقوله تعالى:{وأنزلنا الحديد فيه بأس شديدٌ}(الحديد: ٢٥). لأن هذه الأشياء أعيان قائمة بنفسها مخلوقة، أما القرآن فإنه كلام صفة للمتكلم به وعلى هذا فإذا قيل نزل من عند الله لزم أن يكون كلامه وأنه صفة من صفاته غير مخلوق.
من فوائد الحديث: إثبات النسخ، والعلماء مجمعون على ثبوته من حيث الحقيقة والمعنى، لكنهم شذ منهم من قال: إنه لا نسخ في القرآن كأبي مسلم الأصبهاني فإنه قد قال: ليس في القرآن نسخ، وما جاء نسخا في القرآن فهو تخصيص ولا يصلح أن نسميه نسخًا؛ لأن النسخ إبطال لأي الحكمين؟ الأول والله عز وجل يقول:{لَّا يأتيه البطل من بين يديه ولا من خلفه}(فصّلت: ٤٢) فلا نسخ في القرآن وهذا الذي ادعيتم أنه نسخ مثل قوله: {الئن خفَّف الله عنكم ... }(الأنفال: ٦٦). الآية.