ومن فوائد الحديث: فضيلة ماعز بن مالك رضي الله عنه؛ حيث أنه ألح على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إنه كلما تنحى عنه اتجه إليه فأقر بأنه زنى حتى أتم ذلك أربع مرات.
ومن فوائد الحديث: أنه لا يقبل في الإقرار بالزنا إلا أربع مرات وأنه لو قال: زنيت، ثم قال: زنيت، ثم قال: زنيت فإنه لا يقام عليه الحد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقم الحد على ماعز حتى شهد على نفسه أربع مرات؛ ولأن كل إقرار مرة بمنزلة الشاهد، والزنا لا يقبل فيه بالشهادة إلا أربعة رجال:{ثمَّ لم يأتوا بأربعة شهداء}[النور: ٤]. يعني: لو شهد على إنسان ثلاثة رجال أنه زنى فماذا نصنع؟ نجلد الثلاثة كل واحد ثمانين جلدة، والمتهم بالزنا - المشهود عليه - لا نتعرض له لأنه لا بد في الشهادة بالزنا من أربعة، ما دون الأربعة يكونون قذفة وهذا الذي دل عليه ظاهر الحديث هو ما ذهب إليه الإمام أحمد في المشهور عن أصحابه.
وقد سبق لنا في الحديث الأول أن في ذلك خلافًا بين العلماء؛ فمنهم من قال: إن قضية ماعز إنما احتاج النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرره أربع مرات لأنه كان شاكًّا في أمره، ولهذا أعرض عنه وظن أن في عقله شيئًا، ثم لما تأكد أن الرجل ليس في عقله خلل حكم عليه، وكون ذلك أربع مرات قد يقول قائل: إن هذا وقع اتفاقًا وليس مقصودًا بأن يكون كل إقراره مرة عن شهادة رجل وما دام الاحتمال قائمًا فإن الاستدلال يكون ساقطًا، ومن قواعدهم المقررة: إذا وجد الاحتمال بطل الاستدلال، والقول الراجح ما ذهب إليه الجمهور من أنه إذا أقر مرة واحدة وهو بالغ عاقل يعلم ما يقول فإنه يثبت عليه الحد.
ومن فوائد الحديث: أن الإنسان مؤتمن على نفسه في بيان حالها لقوله: "أبك جنون؟ " فقال: لا، فإذا رأينا شخصًا مفطرًا فقلنا: لم أفطرت في رمضان أأنت مريض؟ فقال: نعم، فلا نتعرض له؛ لأن الإنسان مؤتمن على نفسه في بيان حاله وحسابه على الله، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لماعز:"أبك جنون؟ " قال: "لا"، فأقره على ذلك وحكم بمقتضى هذا الإقرار.
ومن فوائد الحديث: أن إقرارات المجنون لا تعتبر، وجه الدلالة: أن قوله: أبك جنون؟ " يريد أن يرتب عليه الحكم فيما لو قال: إنه مدجنون، يعني: فلا إقرار له وهو كذلك، والمجنون جميع أقواله لاغية لا يحاسب عليها سواء كانت متعلقة بنفسه أو بحق الله أو بحق العباد فهي لاغية لا يترتب عليها شيء، اللهم إلا أن يحصل من أقواله أذية فهنا يحبس لئلا يؤذي الناس، فلو أن مجنونًا قال لإنسان: أنت زانٍ فإننا لا نقول له شيئًا، يعني: لا يترتب على قذفه هذا إقامة حد القذف؛ لأنه مجنون، ولو قال المجنون لشخص: في ذمتي لك ألف ريال وهو مجنون فهل تثبت الألف؟ لا، ولو قال المجنون: زوجتي طالق هل تطلق؟ لا، إذن جميع أقواله غير معتبرة، ولو قال المجنون: إن الله شريكًا فلا نحكم بكفره.