للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

«ألا وإن لكل ملك حمى»، وهل ملك الملوك له حمى؟ نعم، ولهذا قال: «ألا وإن حمى الله محارمه»، كأنه يقول: ولله حمى، وحماه محارمه التي حرمها على العباد، فهي حمى تدعو النفوس إليها كالراعي الذي يرعى حول الحمى، لكن من اتقى ذلك سلم، مثال هذا: الربا، ونحن الآن نتكلم على هذا الحديث بناء على أنه يتعلق بالغذاء واللباس والطعام وغير ذلك، فالربا حرام، لكن إذا رأى هذا التاجر أن المرابين يكسبون كسباً عظيماً فإنه ربما ينجر إلى ذلك كالمواشي تنجر إلى حمى الملوك، كذلك أيضا في القمار فهو حرام، نجد بعض المقامرين يكون أغنى العالم في ليلة واحدة، هذا المحرم إذا رأى الإنسان أنه قد يكون سبباً للكسب الكبير البالغ في ليلة واحدة سوف ينجز إليه هذه محارم الله، الزنا -أعاذنا الله وإياكم منه- إذا رأى الإنسان أنه ستحصل له متعة بدراهم قليلة والمهور كثيرة ربما تجره نفسه إلى ذلك، فحمى الله محارمه، والمحارم يزينها الشيطان لنفس الإنسان فينتهكها. ثم قال: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب»، كلمة «ألا» يكررها الرسول (صلى الله عليه وسلم)، لأنها تفيد التنبيه، «ألا وإن في الجسد» أي: جسد الإنسان، فـ «أل» هنا للعهد الذهني؛ لأن العهود ثلاثة: ذكري. وحضوري، وذهني، ففي قول الله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (١٥) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: ١٦، ١٥]. هذا ذكرى كأنه قال: فعصى فرعون هذا الرسول الذي أرسلناه، وقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: ٣]. هذا حضوري، {اَليَوْمَ} يعني: هذا اليوم، وقوله: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأنعام: ٩٣]. أيضا حضوري، قال النحويون: وكل ما حلى بـ «أل» إذا أتى بعد اسم إشارة فهو حضوري؛ لأن اسم الإشارة يدل على القرب، فإذا جاء بعد المحلى بـ «أل» فهو حضوري، الذهني: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ} [النساء: ١٧٠]. هذا ذهني، {جَاءَكُمُ الرَّسُولُ} لو سئل أي إنسان من الرسول؟ لقال: محمد (صلى الله عليه وسلم)، {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [التغابن: ٨]. من النور؟ القرآن؛ لأن الله أنزله، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا} [النساء: ١٧٤]. «ألا وإن في الجسد» أي: جسد الإنسان، «مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ... إلخ»، لو شاء الرسول (صلى الله عليه وسلم) لقال. ألا وإن القلب في الجسد، إذا صلح صلح الجسد لحصل المقصود، لكن أتى به بهذه الصيغة من أجل الاهتمام به والعناية به وبيان أهميته، «ألا وهي القلب»، ومعنى المضغة: أي قطعة من اللحم بقدر ما يمضغه الإنسان، والإنسان ما قدر ما يمضغه من اللحم؟ من أشداقه واسعة فستكون مضغته كبيرة، ومن أشداقه ضيقة فستكون صغيرة، والوسط وسط.

<<  <  ج: ص:  >  >>