المقام المحمود: الشفاعة العظمى التي لا يتقدم إليها أولو العزم من الرسل؛ لأن الناس يوم القيامة يحشرون في مكان واحد يسمعهم الداعي وينفذهم الصبر حفاة عراة غرلًا, لا ماء ولا ظل, ولا أكل, ولا لباس, شاخصة أبصارهم ويلحقهم من الغم والكرب ما لا يطيقون, حتى إن الإنسان ينسى قريبه {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم ولا يتساءلون} [المؤمنون: ١٠١]. ما يتساءلون أين أخي؟ أين أبي؟ أين عمي؟ ما يتساءلون, بل يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه, وصاحبته وبنيه, لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه الرجال والنساء, ولما قالت عائشة: واسوأتاه الرجال والنساء في صعيد واحد, قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الأمر أعظم من أن يهمهم ذلك». يتساءل الناس من ينجيهم من هذا الكرب, فيلهمون أن يأتوا إلى آدم أبي البشر فيسألونه الشفاعة فيعتذر, فيذهبون إلى نوح فيعتذر, إلى إبراهيم فيعتذر, إلى موسى فيعتذر, كل منهم يرى أنه فعل فعلًا لا يناسب أن يكون شفيعًا من أجل هذا الفعل, آدم يقول: إنه أكل من الشجرة التي نهي عنها, نوح يقال: إنه سأل ما ليس له به علم, إبراهيم يقول: إنه كذب ثلاث كذبات, موسى يقول: إنه قتل نفسًا لم يؤمر بقتلها, عيسى لا يذكر شيئًا يحول بينه وبين الشفاعة, ولكنه يحيلهم على محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أشرف الناس, فيقول: اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, فيأتون إلى محمد صلى الله عليه وسلم يسألونه الشفاعة عند رب العالمين فيشفع إلى الله عز وجل, فيجيب الله تعالى الشفاعة ويقضي بين العباد فيريحهم من هذا الموقف, إذن هذا الموقف يحمد فيه من؟ الأولون والآخرون؛ لأنه خلص الناس من كرب عظيم, هذا من المقام المحمود الذي قال الله تعالى فيه: {عسى أن يبعثك ربك مقامًا محمودًا} [الإسراء: ٧٩].
ولهذا قال: «الذي وعدته» في قوله: {عسى أن يبعثك ربك مقامًا محمودًا} فإذا قال قائل: أهذا وعد؟ قلنا: نعم, كما قال بعض السلف: «عسى» من الله واجبة, إذن فهو وعد, والذي علمنا هذا الدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم, فنستفيد من هذا أن «عسى» من الله وعد, فإذا قرأنا قول الله تعالى: {إلا المستضعفين من الرجال والنساء والوالدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا (٩٨) فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم} [النساء: ٩٨ - ٩٩]. ماذا نقول: هذا وعد أو غير وعد؟ وعد, ولابد أن يقع في آخره.
«إنك لا تخلف الميعاد» وهذه الجملة اختلف فيها المحدثون أصحيحة هي أم لا؟ صححها شيخنا عبد العزيز بن باز وناهيك به في علم الحديث, فإنني لا أعلم له مثيلًا في المملكة فمرة صححه ومرة حسنه, وعلى كل حال فالجملة «إنك لا تخلف الميعاد» هي مطابقة تمامًا لما