للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

" من البكاء" (من) هنا للتعليل أي: من أجل البكاء، ويجوز أن تكون بيانية أي: تبين السبب، لكن المعنى الأول أقصر وأوضح، والبكاء معروف، والبكاء له أسباب: تارة يكون سببه الإيلام والحزن، وتارة يكون سببه عكس ذلك: الفرح، والانبساط، والسرور كم إنسان ضحك حين بشر، وكم من إنسان بكى حينما جزن، والغالب الثاني؛ أي: أنه يكون من الحزن والألم وما أشبه ذلك، وبكاء الصبيان كثير؛ لأنهم لا يستطيعون أن يعبروا عن أنفسهم بالألم أو الحزن إلا بهذه الطريقة، وهذه الطريقة فطرية يتساوى فيها بنو آدم كلهم عربهم وعجمهم، اجمع أطفالا مختلفين بأن تجعل واحدا من العجم، واحدا من العرب، واحدا من البربر، واحدا من أي نوع، ثم حركهم تحريكا يؤلمهم فيصيحون، يختلفون أو لا يختلفون؟ لا يختلفون؛ لأن هذا أمر فطري طبيعي.

قال أهل العلم: وبكاء الصبي فيه فائدة عظيمة، خصوصا الصغار الذين هم في المهد، يقولون: لأن الصغار لما لم يتمكنوا من السير على الأقدام وتحريك الدم وفتح الأمعاء جعل الله تعالى هذا البكاء بدلا من الرياضة بالقدم واليد فهو يفتح الأمعاء وينشط الجسم ويجري الدم، أما بالنسبة للصغار الذين فوق ذلك فإن الإنسان يتألم إذا سمعهم يبكون - لا شك- رحمة بهم- وشفقة لكن الأولى أن يدعهم حتى يسكنوا وتطيب نفوسهم من البكاء، أما الأولى أن يهدئهم؟

فيما أرى - والعلم عند الله- إذا كان بكاؤهم لطلب الانتقام فهذا دعه ما تطيب نفوسهم إلا بهذا، لو أنك حاولت إسكاتهم انكبتت نفوسهم، أما إذا كان عن ألم أو نحو ذلك، فهنا ينبغي أن تحاول إسكاتهم بكل طريقة.

في هذا الحديث فوائد منها: خشوع النبي صلى الله عليه وسلم، لأن هذا البكاء لم ينتج إلا عن حضور القلب وتصور ما يقول.

ومنها: أن البكاء وإن ظهر له صوت لا يبطل الصلاة، وهذا هو مراد المؤلف رحمه الله بسياق هذا الحديث في هذا الباب فإذا وجد الصوت من المصلي من البكاء فإن صلاته لا تبطل، وإن كان بعض العلماء يقول: إذا بان حرفان بطلت الصلاة، ولكن هنا سؤال: هل ينبغي للإنسان أن يتقصد البكاء والنحيب العالي الرفيع، أو الأولى أن يجعل المسألة على حسب الطبيعة؟ الثاني بلا شك هو الأولى، وأما ما يتكلفه بعض الناس في قيام رمضان من النحيب فهذا يذم صاحبه، إلا أن يكون بلا اختياره، لأن الشيء الذي يكون بلا اختيار لا يلام عليه؛ لأنه لا يستطيع أن يعارضه.

ومن فوائد هاذ الحديث: جواز تشبيه الأعلى بالأدنى إذا قصد بذلك التقريب، وجهه:

<<  <  ج: ص:  >  >>