الاختصار، قال أبو هريرة:"بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ "، هذه الجملة التي حذفها المؤلف فيها فوائد، لكن كأن المؤلف- رحمه الله- يختصر الحديث بقدر ما يريد أن يكون دليلًا عليه وعلى المسائل الفقهية، لكن نقولها: قال: "بأبي أنت وأمي" بأبي متعلق بمحذوف، والتقدير: أفديك بأبي وأمي؛ يعني: أجعل أبي وأمي فداء لك.
"أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ " يعني: أخبرني عن هذا السكوت ما تقول؟ والمراد بالسكوت هنا: عدم الرفع بالصوت، والأصل في السكوت: هو الإمساك عن القول، يقال: تكلم وسكت، ولكن المراد به هنا: عدم رفع الصوت بدليل قوله: "ما تقول". قال: أقول: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب"، "اللهم" يعني. يا الله، "باعد بيني وبين خطاياي" أي: اجعلها بعيدة عني، "كما باعدت بين المشرق والمغرب" وهذا أبلغ ما يكون في البُعد كما قال الله تعالى في القرآن: {حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين}[الزخرف: ٣٨] باعد بيني وبينها حتى لا أفعلها؛ لأنها بعيدة المنال، و"الخطايا" جمع خطيئة، وهي ما خَطئ به الإنسان؛ أي: فعله عن عمد، وأما ما أخطأ به فهو ما فعله عن غير عمد.
"اللهم نقني من خطاياي كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس" هذه الخطايا المتلبس بها.
"نقني منها" أي: خلصني منها، "كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس". وخصَّ الثوب بالأبيض؛ لأن الأبيض يظهر عليه أثر الدنس أكثر مما يظهر على غيره، ولهذا تجد الإنسان في الشتاء إذا لبس ثياب الشتاء السوداء متى يغسل الثوب بعد كم؟ بعد شهر، وإذا لبس البياض في الصيف يغسله كل أسبوع؛ لأن الأبيض يؤثر فيه الوسخ أكثر من غيره، ويظهر فيه أثر الوسخ أكثر من غيره، فلهذا قال:"كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس" هذا تنقية الإنسان من الذنوب.
قال:"اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبَرَد" هذا الغَسل يزيل الأثر نهائيًّا فهنا خطايا لم يتلبس بها الإنسان، فماذا يقول؟ باعد بيني وبينها، خطايا تلبس بهذا وتلطخ بها يقول:"اللهم نقني من خطاياي" تنقى منها: تخلص، وتركها يحتاج إلى غسل يزيل أثرها بالكلية، انظر للترتيب، ترتيب طبيعي مناسب للواقع.
وقوله:"بالماء" معروف، "الثلج": تجمد الماء، "البرد": هو الثلج النازل من السحاب، كونها تُغسل بالماء ليس فيه إشكال؛ لأن الماء مزيل، لكن البَرَد والثلج أيهما أشد إزالة الماء الحار أو الثلج والبرد؟ الماء الحار، لكن القضية ليست قضية ثوب يُغسل لكنها قضية ذنوب، والذنوب في الأصل حارة وعقوبتها النار، والشيء إنما يُداوى بضده، فلذلك ذكر الثلج وذكر البرد.
هذا الحديث- كما رأيتم- حديث تستفتح به الصلاة بعد تكبيرة الإحرام، فإذا أضفناه إلى ما سبق وإلى ما يلحق تبين أن الاستفتاح له أنواع كما سيذكر- إن شاء الله- في الفوائد.