ثم إنَّ النزولَ في لسان الصوفية رحمهم الله تعالى عبارةٌ عن نَحْو تَجَلَ من الله سبحانه وتعالى. وسيمُرّ عليك كلماتٌ في تفسسير التجلِّي، وهو أَشْكلُ المسائلِ عند الصوفية. وهو مخلوقٌ عندهم وصورةٌ من صُورِ الأفعال الإلهية، تُنْصَبُ بين العبدِ ورَبِّه لمعرفتِهِ تعالى، ويُنْسب إليها ما يُنْسَب إليه تعالى مع كونه مُنْفَصِلا عنها.
واعلم أنَّ المتكلمينَ على طائفتين: طائفةٌ تُسَمَّى بالأشعرية، وهم المنسوبون إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري. وتَبِعَه أكثرُ الشافعية والمالكية رحمهم الله. وطائفة ثانية تُسَمى بالماتُرِيدية، وهم المنسوبون إلى الشيخ أبي منصور الماتُرِيدي.
وكان الشيخانِ معاصرين، وأبو منصور كان أصغرَهما وتبعه أكثرُ الحنفية. وليس الخلافُ بينهما إلا في نزر مِنْ مسائلَ ذكرَها العلماءُ.
فذهَبَتِ الأشاعرةُ إلى أَنَّ الله تعالى قديمٌ وكذا صِفَاتِهِ السَّبْع. وأما نحو الترزيق والإحياء والإماتة فَسَمَّوها صفاتِ أفعال، وهي عندهم اعبتاراتٌ وإضافاتٌ لا أنها صفاتٌ حقيقيةٌ زائدةٌ على الذَّات. فالخلق باعتبارِ إضافته إلى الرِّزْق يُسمَّى ترزيقًا وهكذا، وتلك الإضافةُ حادثةٌ ليست قائمةً بالباري تعالى. قلتُ: ولا دليلَ عندهم على ذلك، فإنَّ للقدرةِ والإرادة أيضًا تعلّقَا بالحوادثِ ولم يذهب أحدٌ إلى حْدُوثها.
وأما الماتُرِيدية فقسموا الصفات إلى صفات ذاتية: وهي ما يُوْصَفُ بها تعالى ولا يوصف بضِدِّهَا كالعلم والقدرة، وإلى صفاتٍ فعليةٍ: وهي ما يوصَفُ بها تعالى وبأَصْدادها كالإحياء والإماتة، فإنَّ اللَّهَ تعالى يُوْصَف بالإحياءِ والإماتة معًا. فصفاتُ الفِعْل عندهم أيضًا قديمةٌ، كالصفات الذاتية. ولم أجد هذا التعريفَ في كُتُب الكلام، نعم هو في «الدر المختار» من كتابِ الأيمان.
ثُمَّ نحو الإحياء وغيرهِ عند هؤلاء راجع إلى صِفةٍ حقيقة سَمَّوها بالتكوين، واختارها البخاريُّ أيضًا. فصفةُ التكوِين اسمٌ لصفةِ كليةٍ تحتها جزئياتٌ، كالترزيق، والتصوير، والإحياء، والإماتة، وهي قديمةٌ.
أقول: إنَّ ههنا أمورًا غير هذه تُنْسَبُ إلى الباري تعالى، كالنزول إلى السماءِ وغيره أُسمِّيةِ أَفْعَالا وليس نوعُهُ قديمًا، بل كُلُّهَا حوادثُ. وهي عند الماتُرِيدية حادثةٌ مخلوقةٌ للباري تعالى. وأما على مَشربِ الحافظ ابن تيميةَ رضي الله عنه فالصفاتُ الحادثةُ قائمةٌ بالباري وليست بمخلوقةٌ. فإنه لا يرى بقيامِ الحوادث بالقديم بأسًا. ويدَّعِي أنَّ ذلك هو مذهبُ السَّلَف، ويُنكر استحالةَ قيامِ الحوادثِ بالقديم. وفَرَّقَ بينَ الحادثِ والمخلوق: بأنَّ المخلوقَ يُطْلَقُ على المنفصل، فسائِرُ العالمَ حادثٌ ومخلوقٌ، بخلافِ الصفات فإنَّها حادثةٌ وليست بمخلوقةٍ لقيامها بالباري تعالى.
قلتُ: وتساعِدُهُ اللغةُ. فإنَّه يُقالُ: إنَّ زيدًا مُتَّصِفٌ بالقيام، ولا يقالُ إنَّه خالقٌ له، فكذلك يقالُ: إنَّ اللَّهَ تعالى مُتَّصِفٌ بالنزول ولا يقال: إنه خَالقٌ له. وإليه جَنَح البخاريُّ رضي الله تعالى عنه وصرَّح أنَّ الله تعالى مُتَّصِفٌ بصفاتٍ حادثةٍ، غير أنَّ الشارحين أوَّلُوا كلامه.