واعلم أن معاملات العرب بالعَرَايا كانت على عِدَّة أوجه، ذكرها الحافظُ في «الفتح»، وثلاثٌ منها مختاراتٌ للأئمة أيضًا. فعند الإِمام الأعظم العَرِيَّةُ: اسم لعطية ثمرة النخل على عادة العرب، فإن أهل النخل منهم كانوا يَتَطوَّعُون على من لا ثمرَ له في الموسم، ثم إذا كانوا يتأذُّون من دخول المُعْرَى له عليهم يَعْطُونَهم تمرًا آخر مكانه، ليُخَلِّي ثماره للمُعْرِي خاصةً.
وأما عند مالك، فعنه تفسيران: أحدهما: ما عن الإِمام الأعظم بعينه، إلا أنه خالفه في تخريجه، وجعل المُبَادلَة المذكورةَ بيعًا، واعتبره إمامُنا هِبَةً. ثم إن المُعَامَلَةَ المذكورةَ تَقْتَصِرُ عنده بين المُعْرِي والمُعْرَى له، ولا تجري بين غيرهما. وثانيهما: ما في «موطئه»، وهو أن تكون لرجلٍ عدَّةُ نخلٍ في حديقةِ رجلٍ، فتحرَّج صاحبُ البستان في دخوله في الموسم، واصطلح أن يبيع ثمرة نخيله منه بكذا من التمر، لتخلص له ثمرة البستان كلِّه. وحاصلُه: أن العَرِيَّةَ بيعٌ عنده على التفسيرين.
وقال الشافعيُّ: إن الناس كانوا فقراء، ليست عندهم دَرَاهِمَ ولا دنانير، فإذا جاء الموسمُ شَكُوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّم مما رابهم. فلمَّا رأى النبيُّ صلى الله عليه وسلّم اشتياقَهم إلى الرُّطَب، ولا ثمنَ عندهم لِيَشْتَروا به، أباح لهم أن يَشْتَرُوا الرُّطَبَ بالتمر، ولما كانت الحاجةُ تندفع بخمسة أَوْسُق خصَّصه بها. ولذا قال الشافعيةُ: إن العَرِيَّةَ لا تجوز إلا في هذا المقدار، أو أقل. ولا تجوز فيما زاد على ذلك، إلا أن تكونَ بصفقاتٍ. فإذا كانت بصفقاتٍ، فتَجُوزُ عندهم، ولو في ألوفٍ من الأَوْسَاقِ. ثم إنهم يَشْتَرِطُوا الكَيْلَ في التمر، والخَرْصَ في الثمر. وذلك لأن الكَيْلَ إذا فَاتَ عنهم في الثمر، لكونه على رؤوس الأشجار، عَدَلُوا إلى الخَرْصِ، ليَقْرُبَ إلى الواقع شيئًا، ولا يبقى جِزَافًا مَحْضًا. لأن التمرَ بالرُّطَب مُزَابنةٌ عندهم، وهي حرامٌ بالنصِّ. وإنما أَبَاحَها الشرعُ لهم في خمسة أَوْسُقٍ خاصةً، فضيَّقُوا فيه. ثم إن هذه المعاملة في هذا المقدار تجري بين كل