للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

أَخْرَجْتَ اللفظ عن معناه الموضوع له، ولكنك حملته على معنىً لم يكن وُضِعَ له، فإنك حملته على السَّخِيِّ، مع أنه لم يُوضَعْ له. بخلاف المجاز، فإنه إخراجٌ للفظ عن معناه الموضوع له بالكُلِّية، ثم استعمالٌ له في غير المعنى الموضوع له. ففي المَجَازِ تصرُّفان: الأول: إخراجه عن معناه، ثم استعماله في غير ما وُضِعَ له. وبعبارةٍ أخرى: أن اللفظَ في الكناية، وإن لم يُسْتَعْمَلْ في معناه الموضوع له، لكنه لا يَخْرُجُ عمَّا وُضِعَ له أيضًا، بخلاف المجاز.

فقولك: كثيرُ الرماد في زيد كثير الرماد، لم يُسْتَعْمَلْ فيما وضِعَ له، لأنه لم يُسْتَعمَلْ لكثرة الرماد، بل السَّخَاء، ولم يُوضَع له، ولكنه لم يِنْسَلِخْ عن معناه أيضًا، بل جعلتَ كثرةَ الرماد عنوانًا للسخاء بنوع استلزامٍ، وإن لم يَكُنْ ذلك عنوانًا له بحسب الحقيقة. بخلاف المجاز، فإن اللفظَ يَخْرُجُ فيه عن معناه بالكلية.

أما التعريضُ فبمَعْزِلٍ عنهما، فإن اللفظَ لا يعخْرُجُ فيه عن معناه، كما أنه لا يكون عنوانًا لمعنى لم يُوضَعْ له، كما في «الكناية»، ولكنه يكون فيه انتقال إلى المعنى المراد من جهة المقام، والقرائن، نحو قولك: جِئْتُ لأُسَلِّمَ عليك، وتريد السؤال. وهذا الذي أراده الزَّمَخْشَريُّ من قوله: الكنايةُ أن تَذْكُرَ الشيءَ بغير لفظه الموضوع له، كما رأَيْتَ في المثال المذكور. فإنك أردت السخاءَ من كثرة الرماد، ولم يُوضَعْ له. فليس التصرُّف في الكناية إلا بهذا القدر فقط. وهذا الذي نعني من قولنا: إن اللفظَ في الكِنَايَةِ يكون عنوانًا لمعنى، مع عدم كون هذا العنوان موضوعًا لهذا المعنى، وإنما تَحْمِلُهُ عليه بنوع استلزام، وهذا لا يُوجِبُ خروج اللفظ عن معناه.

وبعبارةٍ أخرى: إن في الكناية يتحقَّق المُكَنَّى به، والمُكَنَّى عنه كلاهما، فلا نُخْرِجُ اللفظ عن معناه. فإنك إذا كَنَّيْتَ السخاءَ بكثير الرماد، فكثير الرماد، وإن لم يكن موضوعًا له، لكنه متحقِّق أيضًا، كما أن السَّخَاءَ متحقِّقٌ. بخلاف المجاز، فإنه لا يتحقَّق فيه المعنى الموضوع له، ولا يَصْدُق اللفظ على المعنى إلا بالخروج عمَّا وُضِعَ له. فيتحقَّقُ في المجاز المعنى المجازي فقط، بخلاف الكناية، فإنه يتحقَّقُ فيه كلاهما.

الفرقُ في الكِنَايَةِ عند علماء الأصول، وعند علماء البلاغة

ثم اعلم أن علماءَ الأصول قسَّمُوا اللفظَ إلى: صريحٍ، وكنايةٍ، باعتبار استتار مراده ووضوحه. فيكون اللفظُ عندهم مستعملا في المعنى الموضوع له، وهو المعنى المراد عندهم. بخلاف الكناية عند علماء المعاني، فإن اللفظَ عندهم لا يكون مستعملا في المعنى المراد، بل يكون طريقُ عبورٍ إلى المعنى المراد. أَلا ترى أن كثيرَ الرماد لم يُقْصَدْ منه كثرة الرماد في نفسه، بل هو نحو طريق عبورٍ إلى المعنى المراد. ومن ههنا تبيَّن كون الكنايات بَوَائِن عندنا، ورَوَاجِع عند الشافعية. فإنهم جَعَلُوا الكنايات كناياتٍ على طريق علماء المعاني، فقالوا: نحو قولك: أنتِ بائنٌ كِنَايةً عن قولك: أنتِ طالقٌ، والطلاق منه ليس إلا رَجْعِيًّا، فكذا بأنتِ بائنٌ أيضًا.

وقُلْنَا: إنه كنايةٌ على اصطلاح علماء الأصول، فهو عاملٌ بلفظه، ومُسْتَعْمَلٌ في حقيقته،

<<  <  ج: ص:  >  >>