للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وفي «العيني» كما في الهامش، قال النَّسَفيِّ في «الكافي» عن محمدِ بنِ الحسن، قال: ليس مِنْ أَخْلاقِ المؤمنين الفِرار عن أحكام الله تعالى بالحيلِ الموصِلَةِ إلى إِبْطَالِ الحق، اهـ. وفي «الفتح»: قال أبو يوسف في كتاب الخَرَاج، بعد إِيرَادِ حديثٍ: «لا يُفَرَّقُ بين مجْتَمِعٍ» ولا يَحِلُ لرجلٍ يؤمنُ باللَّهِ واليومِ الآخرِ منعُ الصَّدَقَةِ، ولا إخراجُها عن مِلْكِهِ لمِلكِ غيرِه، ليفَرِقَها بذلك، فتبطلُ الصدقةُ عنها، بأَنْ يصيرَ لكلِّ واحدٍ منها ما لا تجبُ فيه الزَّكاة، ولا يُحتال (١) في إبطالِ الصَّدَقَةِ بوجهٍ، اهـ.

٢ - باب فِى الصَّلَاةِ

٦٩٥٤ - حَدَّثَنِى إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ


(١) قلتُ: أَمَّا عباراتُ أَئِمتُنَا، فَقَدْ نَقَلْتُها في الصُلب برُمَّتِها، وحسْبُكَ بعدَها من تصريحاتِ أَئِمَّتِنا رحمهمُ اللهُ تعالى، ثُم ههنا كلام مِنَ الحافظِ في صَدَّدِ البابِ يفيدُ النَّاظرَ بصيرةُ آتيكَ به أيضًا، لِمَا أرى فيه منفعةً عظيمةً، قال الحافظُ: وهي -أي الحيل- عند العلماءَ على أَقْسَامٍ، بحسب الحاملِ عليها.
فإِنْ توصَّلَ بها بطريقٍ مباحٍ إلى إِبْطَالِ حقٍّ، أو إِثبَاتِ باطلٍ، فهي حرام. أَوْ إلى إثباتِ حقٍ، أو رَفعِ باطلٍ، فهي واجبةٌ، أو مستحبةٌ. وإنْ تُوصْلَ بها بطريقٍ مباحٍ إلى سَلامةٍ مِنْ وقوعٍ في مَكْرُوهٍ، فهي مستحبةٌ، أو مباحةٌ. أو إلى تَرْكِ مندوبٍ، فهي مكروهةٌ، وَوَقَع الخلافُ بين الأئمةِ في القِسْمِ الأوَّلِ، هل يصحُ مطلقًا، وَينْفُذ ظاهرًا وباطنًا، أو يَبْطلُ مطلقًا، أو يصحُ مع الإِثْمِ.
ولمن أَجَازَها مطلقًا، أو أبْطَلَها مطلقًا أدلة كثيرة، فمن الأول: قولُه تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: ٤٤] وقد عَمِلَ به - صلى الله عليه وسلم - في حقِّ الضَّعِيفِ الذي زَنَى، وهو مِنْ حديثِ أَبي أُمَامَةُ بنِ سَهلٍ في -السُّنَنِ-. ومنه قولُه تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: ٢] وفي الحِيَلِ مُخارج من المضَايق، ومنه مشروعيةُ الاستثناءِ، فإنَّ فيه تخْلِيصًا مِنَ الحِنْث، وكذلك الشُّروط كلُّها، فَإنَّ فيها سلامةً مِنَ الوقوعِ في الحَرَجِ، ومنه حديثُ أبي هريرة، وأبي سعيدٍ في قِصةِ بلالٍ: بع الجمع بالدَّراهم، ثم أَتْبعِ الدَّرَاهم جَنِيبَاً.
ومن الثاني: قِصَة أصحابِ السبتِ. وحديثُ: "حرمت عليهم الشحوم، فحملوها، فبَاعُوها، وأكلوا ثمنها"، وحديث: النهي عن النجش، وحديث: "لعن الله المحلِّلَ، والمحلَّلَ له" والأصل في اختلافِ العلماءِ في ذلك اختلافهم هل المعتبر في صِيَغِ العُقُودِ أَلفاظها، أو معانيها؟ فَمَنْ قال بالأَوَّلِ أَجَازَ الحِيَل، ثم اختَلَفوا، فمنهم مَن جَعَلَها تنفذ ظَاهِرَاً، وباطنًا في جميعِ الصُّوَرِ، أو في بَعْضِها ومنهم مَن قال: تَنْفذُ ظاهرًا لا باطِنًا، ومَنْ قال بالثاني أبْطَلَها، ولم يُجِزْ منها إلا ما وَافَقَ فِيه اللَّفظُ المعنى، الذي تدل عليه القَرَائِن، وقَدْ اشتَهَرَ القولُ بالحِيَل عنِ الحنفيةِ، لكون أبي يوسف صنَّفَ فيه كتابًا، لكن المعروفُ عنه وعن كثيرٍ من أَئِمَّتهم تقييدُ أعمالِها بِقصْدِ الحقِّ.
قال صاحب "المحيط": أصلُ الحِيَل قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا ... } [ص: ٤٤] الآية، وضَابطها: إن كانت لِلَفَرَارِ مِنَ الحَرَامِ، والتَّبَاعُدِ مِنَ الإِثْمِ، فحسنٌ؛ وإنْ كانت لإبْطَالِ حقِ مُسْلِمٍ، فلا، بل هي إثمٌ وعدوان، اهـ.
قلت: وفي هذه العبارةِ فوائد تُزري الجُمان، عليك بالتَّأمُّلِ فيها، وإِنَّما لم أَبْسُطْهَا مخَافَةَ الإِطنَابِ، ومِن أَهمِّها: أَنَّ نِسْبَةَ الحِيَلِ إِنَّما اشتَهَرَت إلى الحنفية لكونِ أبي يوسف دَوَّنَ فيها كتابًا، وأَنَّهُ قَيَّدَها بما إذا كانت لإِحياءِ حقٍ؛ وإِنَّ مِنَ الحِيَلِ ما هي واجبةٌ أو مستحبةٌ، وأَنَّها ليست مكروهةٌ على الإِطلَاقِ، وإنَّ نَفْسَها ثابتةٌ مِنَ الكتابِ والسُّنَّةِ، وأَنَّ الخِلَافَ في النَّفَاذِ مع الاتِّفَاقِ على القَوْلِ بِعَدَمِ الجَوَازِ إلى غيرِ ذلك والله تعالى أَعْلَمُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>