واعلم أنَّ الجُمعةَ امتازت عن سائر الصّلوات بشروطٍ إجماعًا. فلم يذهب أحدٌ منهم إلى التسوية بين الجُمعة وسائر الصّلوات. نعم اختلفوا في شرائطها: فشرَط إمامُنا لها المِصْرَ، والآخرون شرطوا العدد. فقال الشافعيّ رحمه الله تعالى: أربعين رجلا، وهو عند أحمد رحمه الله تعالى، وفي رواية عنه: خمسون. وعند مالك رحمه الله تعالى: ثلاثونَ، وفي رواية: عشرون. وراجع «نيل الأوطار». فلو كان في قرية أقلُّ من عشرين رجلا لا جمعةَ عليهم إجماعًا بين الأئمة. أما عند الإمام فلفقدان المِصْر، وأما عندهم فلفُقْدان العدد، فَمَنْ أوجب الجمعةَ مطلقًا فقد خَرَق الإِجماع.
وعن الشافعيّ رحمه الله تعالى أنّها فرضٌ على الكفاية. نقله الخَطَّابيّ رحمه الله تعالى - وهو أوّلُ شارح على أبي داود. وادَّعى النّاس أنّها فَرْضُ عينٍ بالإجماع.
قلت: ولعلّ تلك الروايةَ ثابتةٌ عنه، فإنّك إن راعيت شرائطَها ثُم أردت أن تحكم عليها لا يَسُوغ لك إلا الحُكْم بالفَرْضِ المعيَّن. وإن قطعت النظر عنها جاز لك أن تقول: إنّها فرض كفاية، بمعنى أنّها واجبةٌ على البعض دون البعض لفقدان الشرائط في حقهم. وهذا كأَمرِ الجماعة، فإنّك إن نظرت إلى الوعيد الوارد على تاركها تحكمُ بالوجوب بتًا. وإن لاحظت معه المعاذير الواردة فيها لا يَسُوغ لك إلا الحكمُ بالسنيِّة فاعلمه. وقال الشيخ ابن الهمام: إنّ الجمعة آكَدُ الفرائض وقد مرّ.
ثم اعلم أنَّ الجمعة فُرِضَتْ بمكة ولم يتمكن النبيُّ صلى الله عليه وسلّم من إقامتها فيها حتى ورد المدينة، فنزل في قُباء أربعةَ عشرَ يومًا ولم يُقِم الجمعة، وأوّل جمعة أقامها في بني سالم مَحَلَّةٌ من المدينة. ونقل الحافظ رحمه الله تعالى في «التلخيص» أنَّ الجمعة فُرضَت بمكة، ولم يَنْقُل إسناده وهو موجود عندي، إلاّ أنّ فيه راويًا ساقطًا.
قوله:(إذا نُودي) وفي ألفاظ النِّداء تفتيشٌ أنها كانت بالكلمات المعروفة أو غيرها.
قوله:(فاسعَوْا)، وفرَّق اللّغويون بين قوله: سعى له، وسعى إليه. ومعناه ههنا فامضوا كما في قراءة عمرَ رضي الله عنه.